وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ نَهْيٌ لِلرَّسُولِ عَنْ مُنَازَعَتِهِمْ لِأَنَّ صِيغَةَ الْمُفَاعَلَةِ تَقْتَضِي حُصُولَ الْفِعْلِ مِنْ جَانِبَيْ فَاعِلِهِ وَمَفْعُولِهِ، فَيَصِحُّ نَهْيُ كُلٍّ مِنَ الْجَانِبَيْنِ عَنْهُ. وَإِنَّمَا أُسْنِدَ الْفِعْلُ هُنَا لِضَمِيرِ الْمُشْرِكِينَ مُبَالَغَةً فِي نَهْيِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ منازعته إيَّاهُم الَّتِي تُفْضِي إِلَى منازعتهم إِيَّاه فَيكون النَّهْي عَن مُنَازَعَتِهِ إِيَّاهُمْ كَإِثْبَاتِ الشَّيْءِ بِدَلِيلِهِ. وَحَاصِلُ مَعْنَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ أَمْرٌ لِلرَّسُولِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ مُجَادَلَتِهِمْ بَعْدَ مَا سِيقَ لَهُمْ مِنَ الْحُجَجِ.
وَاسْمُ الْأَمْرِ هُنَا مُجْمَلٌ مُرَادٌ بِهِ التَّوْحِيدُ بِالْقَرِينَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُنَازِعُونَ فِي كَوْنِهِمْ عَلَى ضَلَالٍ بِأَنَّهُمْ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَّرَ الْحَجَّ الَّذِي هُوَ مِنْ مَنَاسِكِهِمْ، فَجَعَلُوا ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى ادِّعَاءِ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ كَشْفًا لَشُبْهَتِهِمْ بِأَنَّ الْحَجَّ مَنْسَكٌ حَقٌّ، وَهُوَ رَمْزُ التَّوْحِيدِ، وَأَنَّ مَا عَدَاهُ بَاطِلٌ طَارِئٌ عَلَيْهِ فَلَا يُنَازِعُنَّ فِي أَمْرِ الْحَجِّ بَعْدَ هَذَا. وَهَذَا الْمَحْمَلُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِتَنَاسُقِ الضَّمَائِرِ الْعَائِدَةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِمَّا تَقَدَّمَ إِلَى قَوْلِهِ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الْحَج: ٧٢] ، وَلِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَ بَعْضُهَا بِمَكَّةَ فِي آخِرِ مُقَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا وَبِالْمَدِينَةِ فِي أَوَّلِ مُقَامِهِ بِهَا فَلَا مُنَازَعَةَ بَيْنَ النَّبِيءِ وَبَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ يَوْمَئِذٍ، فَيَبْعُدُ تَفْسِيرُ الْمُنَازَعَةِ بِمُنَازَعَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ. عَطْفٌ عَلَى انْتِهَاءِ الْمُنَازَعَةِ فِي الدِّينِ أَمْرٌ بِالدَّوَامِ عَلَى الدَّعْوَةِ وَعَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِظُهُورِ الْحُجَّةِ لِأَنَّ الْمُكَابَرَةَ تُجَافِي الِاقْتِنَاعَ، وَلِأَنَّ فِي الدَّوَامِ عَلَى الدَّعْوَةِ فَوَائِدَ لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَفِي حَذْفِ مَفْعُولِ ادْعُ إِيذَانٌ بِالتَّعْمِيمِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute