وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَوْ تَدَبَّرُوا قَوْلَ الْقُرْآنِ لَعَلِمُوا أَنَّهُ الْحَقُّ بِدَلَالَةِ إِعْجَازِهِ وَبِصِحَّةِ
أَغْرَاضِهِ، فَمَا كَانَ اسْتِمْرَارُ عِنَادِهِمْ إِلَّا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ. وَهَذَا أَحَدُ الْعِلَلِ الَّتِي غَمَرَتْ بِهِمْ فِي الْكُفْرِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ الثَّانِي: هُوَ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ (أَمْ) وَقَوْلِهِ: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ. فَ (أَمْ) حَرْفُ إِضْرَابٍ انْتِقَالِيٍّ مِنَ اسْتِفْهَامٍ إِلَى غَيْرِهِ وَهِيَ (أَمْ) الْمُنْقَطِعَةُ بِمَعْنَى (بَلْ) وَيَلْزَمُهَا تَقْدِيرُ اسْتِفْهَامٍ بَعْدَهَا لَا مَحَالَةَ. فَقَوْلُهُ جاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ تَقْدِيرُهُ: بَلْ أَجَاءَهُمْ.
وَالْمَجِيءُ مَجَازٌ فِي الْإِخْبَارِ وَالتَّبْلِيغِ، وَكَذَلِكَ الْإِتْيَانُ.
وَ (مَا) الْمَوْصُولَةُ صَادِقَةٌ عَلَى دِينٍ. وَالْمَعْنَى: أَجَاءَهُمْ دِينٌ لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ وَهُوَ الدِّينُ الدَّاعِي إِلَى تَوْحِيدِ الْإِلَهِ وَإِثْبَاتِ الْبَعْثِ، وَلِذَلِكَ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: ٢٢] . وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [الزخرف: ٢٣، ٢٤] .
ثُمَّ إِنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ ظَاهِرَ مَعْنَى الصِّلَةِ وَهِيَ مَا لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ مِنْ أَنَّ الدِّينَ الَّذِي جَاءَهُمْ لَا عَهْدَ لَهُمْ بِهِ، تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ تَهَكُّمٌ بِهِمْ إِذْ قَدْ أَنْكَرُوا دِينًا جَاءَهُمْ وَلَمْ يَسْبِقْ مَجِيئُهُ لَآبَاءِهُمْ. وَوَجْهُ التَّهَكُّمِ أَنَّ شَأْنَ كُلِّ رَسُولٍ جَاءَ بِدِينٍ أَنْ يَكُونَ دِينُهُ أُنُفًا وَلَوْ كَانَ لِلْقَوْمِ مِثْلُهُ لَكَانَ مَجِيئُهُ تَحْصِيلَ حَاصِلٍ.
وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الصِّلَةِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى: لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ، كَانَ الْكَلَامُ مُجَرَّدَ تَغْلِيطٍ، أَيْ لَا اتِّجَاهَ لِكُفْرِهِمْ بِهِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ إِذْ لَا يَكُونُ الدِّينُ إِلَّا مُخَالِفًا لِلضَّلَالَةِ وَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: ٢١، ٢٢] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute