للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَأَمَّا الِاسْتِفْهَامُ الثَّالِثُ: الْمُقَدَّرُ بَعْدَ (أَمْ) الثَّانِيَةِ فِي قَوْلِهِ: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَنْ عَدَمِ مَعْرِفَتِهِمُ الرَّسُولَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْمَعْرِفَةِ بِهِ هُوَ أَحَدُ احْتِمَالَيْنِ فِي شَأْنِهِمْ إِذْ لَا يَخْلُونَ عَنْ أَحَدِهِمَا، فَأَمَّا كَوْنُهُمْ يَعْرِفُونَهُ فَهُوَ الْمَظْنُونُ بِهِمْ فَكَانَ الْأَجْدَرُ بِالِاسْتِفْهَامِ هُوَ عَدَمُ مَعْرِفَتِهِمْ بِهِ إِذْ تُفْرَضُ كَمَا يُفْرَضُ الشَّيْءُ الْمَرْجُوحُ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الِاسْتِغْرَابِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلتَّغْلِيطِ فَإِنَّ رَمْيَهُمُ الرَّسُولَ بِالْكَذِبِ وَبِالسِّحْرِ وَالشِّعْرِ يُنَاسِبُ أَنْ لَا يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ مِنْ قَبْلُ، إِذِ الْعَارِفُ بِالْمَرْءِ لَا يَصِفُهُ بِمَا هُوَ مِنْهُ بَرِيءٌ، وَلِذَلِكَ تَفَرَّعَ عَلَى عَدَمِ

مَعْرِفَتِهِمْ إِنْكَارُهُمْ إِيَّاهُ، أَيْ إِنْكَارُهُمْ صِفَاتِهِ الْكَامِلَةَ.

فَتَعْلِيقُ ضَمِيرِ ذَاتِ الرَّسُولِ بِ مُنْكِرُونَ هُوَ مِنْ بَابِ إِسْنَادِ الْحُكْمِ إِلَى الذَّاتِ وَالْمُرَادُ صِفَاتُهَا مِثْلَ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاء: ٢٣] . وَهَذِهِ الصِّفَاتُ هِيَ الصِّدْقُ وَالنَّزَاهَةُ عَنِ السِّحْرِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي عِدَادِ الشُّعَرَاءِ.

وَلِلَّهِ دَرُّ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ:

لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا لَا مُكَذَّبٌ ... لَدَيْنَا وَلَا يُعْزَى لِقَوْلِ الْأَبَاطِلِ

وَقَالَ تَعَالَى فِيمَا أَمَرَ بِهِ رَسُولَهُ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ (أَيِ الْقُرْآنُ) أَفَلا تَعْقِلُونَ [يُونُس: ١٦] .

وَلَمَّا كَانَ الْبَشَرُ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ مَا يَسْلُبُ خِصَالَهُ وَهُوَ اخْتِلَالُ عَقْلِهِ عُطِفَ عَلَى أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ قَوْلُهُ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ، وَهُوَ الِاسْتِفْهَامُ الرَّابِعُ، أَيْ أَلَعَلَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّ رَسُولَهُمُ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ قَدْ أُصِيبَ بِجُنُونٍ فَانْقَلَبَ صِدْقُهُ كَذِبًا.

وَالْجِنَّةُ: الْجُنُونُ، وَهُوَ الْخَلَلُ الْعَقْلِيُّ الَّذِي يُصِيبُ الْإِنْسَانَ، كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ مِنْ مَسِّ الْجِنِّ.

وَالْجِنَّةُ يُطْلَقُ عَلَى الْجِنِّ وَهُوَ الْمَخْلُوقَاتُ الْمُسْتَتِرَةُ عَنْ أَبْصَارِنَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [النَّاس: ٦] . وَيُطْلَقُ الْجِنَّةُ عَلَى الدَّاءِ اللَّاحِقِ مِنْ إِصَابَةِ الْجِنِّ وَصَاحِبُهُ مَجْنُونٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا بِدَلِيلِ بَاءِ الْمُلَابَسَةِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ