وَالْحَقُّ هُنَا هُوَ الْحَقُّ الْمُتَقَدِّمُ فِي قَوْلِهِ: بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٧٠] وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُوَافِقُ لِلْوُجُودِ الْوَاقِعِيِّ وَلِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ. وَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ أَنَّ كَرَاهَةَ أَكْثَرِهِمْ لِلْحَقِّ نَاشِئَةٌ عَنْ كَوْنِ الْحَقِّ مُخَالِفًا أَهْوَاءَهُمْ فَسُجِّلَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ أَهْلُ هَوًى وَالْهَوَى شَهْوَةٌ وَمَحَبَّةٌ لِمَا يُلَائِمُ غَرَضَ صَاحِبِهِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ. وَإِنَّمَا يَجْرِي الْهَوَى عَلَى شَهْوَةِ دَوَاعِي النُّفُوسِ أَعْنِي شَهَوَاتِ الْأَفْعَالِ غَيْرَ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْجِبِلَّةُ، فَشَهْوَةُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا تَدْعُو إِلَيْهِ الْجِبِلَّةُ لَيْسَتْ مِنَ الْهَوَى وَإِنَّمَا الْهَوَى شَهْوَةُ مَا لَا تَقْتَضِيهِ الْفِطْرَةُ كَشَهْوَةِ الظُّلْمِ وَإِهَانَةِ النَّاسِ، أَوْ شَهْوَةِ مَا تَقْتَضِيهِ الْجِبِلَّةُ لَكِنْ يُشْتَهَى عَلَى كَيْفِيَّةٍ وَحَالَةٍ لَا تَقْتَضِيهَا الْجِبِلَّةُ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ فَسَادٍ وَضُرٍّ مِثْلَ شَهْوَةِ الطَّعَامِ الْمَغْصُوبِ وَشَهْوَةِ الزِّنَا، فَمَرْجِعُ مَعْنَى الْهَوَى إِلَى الْمُشْتَهَى الَّذِي لَا تَقْتَضِيهِ الْجِبِلَّةُ.
وَالِاتِّبَاعُ: مَجَازٌ شَائِعٌ فِي الْمُوَافَقَةِ، أَيْ لَوْ وَافَقَ الْحَقُّ مَا يَشْتَهُونَهُ.
وَمَعْنَى مُوَافَقَةِ الْحَقِّ الْأَهْوَاءَ أَنْ تَكُونَ مَاهِيَةُ الْحَقِّ مُوَافِقَةً لِأَهْوَاءِ النُّفُوسِ. فَإِنَّ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ لَهَا تَقَرُّرٌ فِي الْخَارِجِ سَوَاءٌ كَانَتْ مُوَافِقَةً لِمَا يَشْتَهِيهِ النَّاسُ أَمْ لَمْ تَكُنْ مُوَافِقَةً لَهُ فَمِنْهَا الْحَقَائِقُ الْوُجُودِيَّةُ وَهِيَ الْأَصْلُ فَهِيَ مُتَقَرِّرَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِثْلَ كَوْنِ الْإِلَهِ وَاحِدًا، وَكَوْنِهِ لَا يَلِدُ، وَكَوْنِ الْبَعْثِ وَاقِعًا لِلْجَزَاءِ، فَكَوْنُهَا حَقًّا هُوَ عَيْنُ تَقَرُّرِهَا فِي الْخَارِجِ.
وَمِنْهَا الْحَقَائِق المعنوية وَهِي الْمَوْجُودَةُ فِي الِاعْتِبَارِ فَهِيَ مُتَقَرِّرَةٌ فِي الِاعْتِبَارَاتِ.
وَكَوْنُهَا حَقًّا هُوَ كَوْنُهَا جَارِيَةً عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ نِظَامُ الْعَالَمِ مِثْلَ كَوْنِ الْوَأْدِ ظُلْمًا، وَكَوْنِ الْقَتْلِ عُدْوَانًا، وَكَوْنِ الْقِمَارِ أَخْذَ مَالٍ بِلَا حَقٍّ لِآخِذِهِ فِي أَخْذِهِ، فَلَوْ فُرِضَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي أَضْدَادِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَفَسَدَ مَنْ فِيهِنَّ، أَيْ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ النَّاسِ.
وَوَجْهُ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ فَسَادِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَفَسَادِ النَّاسِ وَبَيْنَ كَوْنِ الْحَقِّ جَارِيًا عَلَى أَهْوَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْحَقَائِقِ هُوَ أَنَّ أَهْوَاءَهُمْ شَتَّى فَمِنْهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute