وَالظَّاهِرُ أَنَّ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ فِيهِنَّ صَادِقَةٌ عَلَى الْعُقَلَاءِ مِنَ الْبَشَرِ وَالْمَلَائِكَةِ.
فَفَسَادُ الْبَشَرِ عَلَى فَرْضِ أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى أَهْوَاءِ الْمُشْرِكِينَ ظَاهِرٌ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ.
وَأَمَّا فَسَادُ الْمَلَائِكَةِ فَلِأَنَّ مِنْ أَهْوَاءِ الْمُشْرِكِينَ زَعْمَهُمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ فَلَوْ كَانَ الْوَاقِعُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْمَلَائِكَةِ بُنُوَّةُ اللَّهِ لَأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى أَنهم ءالهة لِأَنَّ الْمُتَوَلِّدَ مِنْ جِنْسٍ يَجِبُ
أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِمَا تَوَلَّدَ هُوَ مِنْهُ إِذِ الْوَلَدُ نُسْخَةٌ مِنْ أَبِيهِ فَلَزِمَ عَلَيْهِ مَا يَلْزَمُ عَلَى الْقَوْلِ بِتَعَدُّدِ الْآلِهَةِ. وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فُصُولِ حَقِيقَةِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ مُسَخَّرُونَ لِطَاعَةِ اللَّهِ وَتَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ لَفَسَدَتْ حَقَائِقُهُمْ فَأَفْسَدُوا مَا يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ بِإِصْلَاحِهِ وَبِالْعَكْسِ فَتَنْتَقِضُ الْمَصَالِحُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ صَادِقًا عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيبِ فِي اسْتِعْمَالِ (مَنْ) . وَوَجْهُ الْمُلَازَمَةِ يَنْتَظِمُ بِالْأَصَالَةِ مَعَ وَجْهِ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ وَبَيْنَ فَسَادِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ يسري إِلَى اختلال مَوَاهِي الْمَوْجُودَاتِ فَتُصْبِحُ غَيْرَ صَالِحَةٍ لِمَا خُلِقَتْ عَلَيْهِ، فَيَفْسَدُ الْعَالَمُ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ فَرَضَ بَحْثًا فِي إِمْكَانِ فَنَاءِ الْعَالَمِ وَفَرَضَ أَسْبَابًا إِنْ وُجِدَ وَاحِدٌ مِنْهَا فِي هَذَا الْعَالَمِ. وَعَدَّ مِنْ جُمْلَتِهَا أَنْ تَحْدُثَ حَوَادِثُ جَوِّيَّةٌ تُفْسِدُ عُقُولَ الْبَشَرِ كُلِّهِمْ فَيَتَأَلَّبُونَ عَلَى إِهْلَاكِ الْعَالَمِ فَلَوْ أَجْرَى اللَّهُ النِّظَامَ عَلَى مُقْتَضَى الْأَهْوَاءِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْحَقِّ لِمَا هُوَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَمَا يَشْتَهُونَ لَعَادَ ذَلِكَ بِالْفَسَادِ عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِ فَكَانُوا مَشْمُولِينَ لِذَلِكَ الْفَسَادِ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَنَاهِيكَ بِأَفْنِ آرَاءٍ لَا تُمَيِّزُ بَيْنَ الضُّرِّ وَالنَّافِعِ لِأَنْفُسِهِمَا. وَكَفَى بِذَلِكَ شَنَاعَةً لِكَرَاهِيَتِهِمُ الْحَقَّ وَإِبْطَالًا لِزَعْمِهِمْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ تَصَرُّفَاتُ مَجْنُونٍ.
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ.
إِبْطَالٌ لِمَا اقْتَضَاهُ الْفَرْضُ فِي قَوْلِهِ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ أَيْ بَلْ لَمْ يَتَّبِعِ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ فَأَبْلَغْنَا إِلَيْهِمُ الْحَقَّ عَلَى وَجْهِهِ بِالْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ ذِكْرٌ لَهُمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute