وَجَوَابُهُمْ يَقْتَضِي أَنهم تحققوا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَتَذَكَّرُوا طُولَ مُدَّةِ مُكْثِهِمْ عَلَى تَفَاوُتٍ فِيهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِمْ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أَنَّهُمْ قَدَّرُوا مُدَّةَ مُكْثِهِمْ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ بِنَحْوِ يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ الْمَعْهُودَةِ لَدَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرُّومِ [٥٥] وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ.
وَلَمْ يَعُرِّجِ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى تَبْيِينِ الْمَقْصِدِ مِنْ سُؤَالِهِمْ وَإِجَابَتِهِمْ عَنْهُ وَتَعْقِيبِهِ بِمَا يُقَرِّرُهُ فِي الظَّاهِرِ. وَالَّذِي لَاحَ لِي فِي ذَلِكَ أَنَّ إِيقَافَهُمْ عَلَى ضَلَالِ اعْتِقَادِهِمُ الْمَاضِي جِيءَ بِهِ فِي قَالَبِ السُّؤَالِ عَنْ مُدَّةِ مُكْثِهِمْ فِي الْأَرْضِ كِنَايَةً عَنْ ثُبُوتِ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ أَحْيَاءً وَهُوَ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَهُ، وَكِنَايَةً عَنْ خَطَأِ اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى إِبْطَالِ الْبَعْثِ بِاسْتِحَالَةِ رُجُوعِ الْحَيَاةِ إِلَى عِظَامٍ وَرُفَاتٍ. وَهِيَ حَالَةٌ لَا تَقْتَضِي مُدَّةَ قَرْنٍ وَاحِدٍ فَكَيْفَ وَقَدْ أُعِيدَتْ إِلَيْهِمْ الْحَيَاةِ بَعْدَ أَنْ بَقَوْا قُرُونًا كَثِيرَةً، فَذَلِكَ أَدَلُّ وَأُظْهَرُ فِي سِعَةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَدْخَلُ فِي إِبْطَالِ شُبْهَتِهِمْ إِذْ قَدْ تَبَيَّنَ بُطْلَانُهَا فِيمَا هُوَ أَكْثَرُ مِمَّا قَدَّرُوهُ مِنْ عِلَّةِ اسْتِحَالَةِ عَوْدِ الْحَيَاةِ إِلَيْهِمْ.
وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٥] وَقَدْ أَلْجَأَهُمُ اللَّهُ إِلَى إِظْهَارِ اعْتِقَادِهِمْ قِصَرَ الْمُدَّةِ الَّتِي بَقَوْهَا زِيَادَةً فِي تَشْوِيه خطإهم فَإِنَّهُمْ لمّا أحسوا من أَنْفُسَهُمْ أَنَّهُمْ صَارُوا أَحْيَاءً كَحَيَاتِهِمُ الْأُولَى وَعَادَ لَهُمْ تَفْكِيرُهُمُ الْقَدِيمُ الَّذِي مَاتُوا عَلَيْهِ، وَكَانُوا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُمْ إِذَا فَنِيَتْ أَجْسَادُهُمْ لَا تَعُودُ إِلَيْهِمُ الْحَيَاةُ أَوْهَمَهُمْ كَمَالُ أَجْسَادِهِمْ أَنَّهُمْ مَا مَكَثُوا فِي الْأَرْضِ إِلَّا زَمَنًا يَسِيرًا لَا يَتَغَيَّرُ فِي مِثْلِهِ الْهَيْكَلُ الْجُثْمَانِيُّ فَبَنَوْا عَلَى أَصْلِ شُبْهَتِهِمُ الْخَاطِئَةِ خَطَأً آخَرَ.
وَأما قَوْلهم: فَسْئَلِ الْعادِّينَ فَهُوَ اعْتِرَافٌ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَضْبُطُوا مُدَّةَ مُكْثِهِمْ فَأَحَالُوا السَّائِلَ عَلَى مَنْ يَضْبُطُ ذَلِكَ مِنَ الَّذِينَ يَظُنُّونَهُمْ لَمْ يَزَالُوا أَحْيَاءً لِأَنَّهُمْ حَسِبُوا أَنَّهُمْ بُعِثُوا وَالدُّنْيَا بَاقِيَةٌ وَحَسِبُوا أَنَّ السُّؤَالَ على ظَاهره فتبرأوا مِنْ عُهْدَةِ عَدَمِ ضَبْطِ الْجَوَابِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute