بِالتَّوْرَاةِ غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى حَقِّهِ وَذَلِكَ أَشَدُّ مَا يَفُتُّ فِي أَعَضَادِهِمْ وَيُسْقَطُ فِي أَيْدِيهِمْ لِأَنَّ تَرَقُّبَ الْحَظِّ الْأُخْرَوِيِّ أَهُمُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمُعْتَقِدُ الْمُتَدَيِّنُ فَإِنَّ تِلْكَ هِيَ الْحَيَاةُ الدَّائِمَةُ وَالنَّعِيمُ الْمُقِيمُ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ رَدٌّ لِدَعْوَى أُخْرَى صَدَرَتْ مِنَ الْيَهُودِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْجَنَّةَ خَاصَّةً بِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَة: ١٨] وَقَوْلِهِمْ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً [الْبَقَرَة: ١١١] ، وَإِلَى هَذَا مَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَالْبَيْضَاوِيُّ، وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ ذِكْرُ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بَيِّنًا لِمُجَرَّدِ الْمُنَاسَبَةِ فِي رَدِّ مُعْتَقَدٍ لَهُمْ بَاطِلٍ أَيْضًا لَا فِي خُصُوصِ الْغَرَضِ الْمَسُوقِ فِيهِ الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْآيَاتِ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مُتَنَاسِبَةً تَمَامَ الْمُنَاسَبَةِ، وَنَحْنُ لَا نُسَاعِدُ عَلَى ذَلِكَ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ هَاتِهِ الْآيَةِ هُنَا نَزَلَتْ مَعَ سَوَابِقِهَا لِلرَّدِّ عَلَى أَقْوَالِهِمُ الْمُتَفَرِّقَةِ الْمَحْكِيَّةِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى وَإِنَّمَا اتَّصَلَتْ مَعَ الْآيَاتِ الرَّاجِعَةِ إِلَى رَدِّ دَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ لِلْمُنَاسَبَةِ بِجَمْعِ رَدِّ جَمِيعِ دَعَاوِيهِمْ وَلَكِنْ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ غُنْيَةٌ.
وَأَيًّا مَا كَانَ فَهَذِهِ الْآيَةُ تَحَدَّتِ الْيَهُودَ كَمَا تَحَدَّى الْقُرْآنُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِقَوْلِهِ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَة: ٢٣] . وَإِنَّمَا فُصِلَتْ هَاتِهِ الْجُمْلَةُ عَمَّا قَبْلَهَا لِاخْتِلَافِ السِّيَاقِ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِلْقَاءُ حُجَّةٍ عَلَيْهِمْ وَالْآيَاتِ السَّابِقَةِ تَفْظِيعٌ لِأَحْوَالِهِمْ وَإِنْ كَانَ فِي كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ احْتِجَاجٌ لَكِنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ كَانَ مُحَسَّنًا لِلْفَصْلِ دُونَ الْعَطْفِ لَا سِيَّمَا مَعَ افْتِتَاحِ الِاحْتِجَاجِ بِقُلْ.
وَالْكَلَامُ فِي لَكُمُ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الدَّارِ الْآخِرَةِ نَعِيمُهَا ولَكُمُ خَبَرُ كانَتْ قُدِّمَ لِلْحَصْرِ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِمْ كَتَقْدِيمِهِ فِي قَوْلِ الْكُمَيْت يمدح هشاما بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ حِينَ عَفَا عَنْهُ مِنْ قَصِيدَةٍ:
لَكُمْ مَسْجِدَا اللَّهِ الْمَزُورَانِ والحصى ... لكم قَبْضَة مِنْ بَيْنِ أَثْرَى وَأَقْتَرَا
وعِنْدَ اللَّهِ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِكَانَتْ وَالْعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ تَشْرِيفٍ وَادِّخَارٍ أَيْ مُدَّخَرَةٌ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَفِي ذَلِكَ إِيذَانٌ بِأَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ مُرَادٌ بِهَا الْجَنَّةُ. وَانْتَصَبَ خالِصَةً عَلَى الْحَالِ مِنِ اسْمِ (كَانَ) وَلَا وَجْهَ لِتَوَقُّفِ بَعْضِ النُّحَاةِ فِي مَجِيءِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ (كَانَ) . وَمَعْنَى
الْخَالِصَةِ السَّالِمَةُ مِنْ مُشَارَكَةِ غَيْرِكُمْ لَكُمْ فِيهَا فَهُوَ يؤول إِلَى مَعْنَى خَاصَّةً بِكُمْ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ النَّاسِ دُونِ فِي الْأَصْلِ ظَرْفٌ لِلْمَكَانِ الْأَقْرَبِ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ غَيْرُ مُتَصَرِّفٍ وَهُوَ مَجَازٌ فِي الْمُفَارَقَةِ فَلِذَلِكَ تَدُلُّ عَلَى تَخَالُفِ الْأَوْصَافِ أَوِ الْأَحْوَالِ، تَقُولُ هَذَا لَكَ دُونَ زَيْدٍ أَيْ لَا حَقَّ لِزَيْدٍ فِيهِ فَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ النَّاسِ تَوْكِيدٌ لِمَعْنَى الِاخْتِصَاصِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ تَقْدِيمِ الْخَبَرِ وَمِنُُْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute