قَوْلِهِ: خالِصَةً لِدَفْعِ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْخُلُوصِ الصَّفَاءَ مِنَ الْمُشَارِكِ فِي دَرَجَاتِهِمْ مَعَ كَوْنِهِ لَهُ حَظٌّ مِنَ النَّعِيمِ. وَالْمُرَادُ مِنَ النَّاسِ جَمِيعُ النَّاسِ فَاللَّامُ فِيهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً [الْبَقَرَة: ١١١] .
وَقَوْلُهُ: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ جَوَابُ الشَّرْطِ وَوَجْهُ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ الشَّرْطِ- وَهُوَ أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهُمْ- وَجَزَائِهِ- وَهُوَ تَمَنِّي الْمَوْتِ- أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَا يَخْلُصُ أَحَدٌ إِلَيْهَا إِلَّا بِالرُّوحِ حِينَ تُفَارِقُ جَسَدَهُ وَمُفَارَقَةُ الرُّوحِ الْجَسَدَ هُوَ الْمَوْتُ فَإِذَا كَانَ الْمَوْتُ هُوَ سَبَبُ مَصِيرِهِمْ إِلَى الْخَيْرَاتِ كَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَتَمَنَّوْا حُلُولَهُ كَمَا كَانَ شَأْنُ أَصْحَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
جَرْيًا إِلَى اللَّهِ بِغَيْرِ زَادٍ ... إِلَّا التُّقَى وَعَمَلِ الْمَعَادِ
وَارْتَجَزَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ غَزْوَةِ مُؤْتَةَ حِينَ اقْتَحَمَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ:
يَا حَبَّذَا الْجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَا ... طَيِّبَةً وَبَارِدٌ شَرَابُهَا
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ عِنْدَ خُرُوجِهِ إِلَى غَزْوَةِ مُؤْتَةَ وَدَعَا الْمُسْلِمُونَ لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ أَنْ يَرُدَّهُمُ الله سَالِمين:
لكني أَسْأَلُ الرَّحْمَانَ مَغْفِرَةً ... وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا
أَوْ طَعْنَةً مِنْ يَدَيْ حَرَّانَ مُجْهِزَةً ... بِحَرْبَةٍ تُنْفِذُ الْأَحْشَاءَ وَالْكَبِدَا
حَتَّى يَقُولُوا إِذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِي ... أَرْشَدَكَ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا
وَجُمْلَةُ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً إِلَى آخِرِهِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ وَبَيْنَ جُمْلَةِ قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ [الْبَقَرَة: ٩٧] وَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ إِعْلَامًا لَهُمْ لِيَزْدَادُوا يَقِينًا وَلِيَحْصُلَ مِنْهُ تَحَدٍّ لِلْيَهُودِ إِذْ يَسْمَعُونَهُ وَيَوَدُّونَ أَنْ يُخَالِفُوهُ لِئَلَّا يَنْهَضَ حُجَّةً عَلَى صِدْقِ الْمُخْبِرِ بِهِ فَيَلْزَمُهُمْ أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ لَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا فِي عَقِيدَةٍ مُخْتَلِطَةٍ مُتَنَاقِضَةٍ
كَشَأْنِ عَقَائِدِ الْجَهَلَةِ الْمَغْرُورِينَ فَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهُمْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ:
نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا [الْبَقَرَة: ٩١] وَقَوْلُهُمْ: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَة: ١٨] ثُمَّ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمُ اجْتَرَءُوا عَلَى اللَّهِ وَاكْتَسَبُوا السَّيِّئَاتِ حَسْبَمَاُُ