للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ

[النِّسَاء: ١٤٣] وَقَوْلِ الْمَرْأَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: «زَوْجِي كَلَيْلُ تِهَامَةَ لَا حَرٌّ وَلَا قَرٌّ» (١) أَيْ وَسَطًا بَيْنَ الْحَرِّ وَالْقَرِّ وَقَوْلِ الْعَجَّاجِ يَصِفُ حِمَارَ وَحْشٍ:

حَشْرَجَ فِي الْجَوْفِ قَلِيلًا وَشَهِقْ ... حَتَّى يُقَالَ نَاهِقٌ وَمَا نَهِقْ

وَالْمَعْنَى: إِنَّهَا زَيْتُونَةٌ جِهَتُهَا بَيْنَ جِهَةِ الشَّرْقِ وَجِهَةِ الْغَرْبِ، فَنُفِيَ عَنْهَا أَنْ تَكُونَ شَرْقِيَّةً وَأَنْ تَكُونَ غَرْبِيَّةً، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَازِمُ الْمَعْنَى لَا صَرِيحُهُ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرَانِ الْمَنْفِيَّانِ مُتَضَادَّيْنِ فَإِنَّ نَفْيَهُمَا لَا يَقْتَضِي أَكْثَرَ مِنْ نَفْيِ وُقُوعِهِمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الْوَاقِعَة: ٤٣، ٤٤] وَقَوْلِ الْمَرْأَةِ الْأُولَى مِنْ نِسَاءِ حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: «زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ، لَا سَهْلٌ فَيُرْتَقَى وَلَا سَمِينٌ فَيُنْتَقَلُ» .

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي عَطْفِ نَفْيِ الْأَسْمَاءِ وَأَمَّا عَطْفُ الْأَفْعَالِ الْمَنْفِيَّةِ فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ نَحْوَ: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى [الْقِيَامَة: ٣١]

وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ»

. وَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ هَذَا لَمْ يَرِدْ إِلَّا فِي النَّفْيِ بِلَا النَّافِيَةِ وَلِذَلِكَ اسْتَقَامَ لِلْحَرِيرِيِّ أَنْ يُلَقِّبَ شَجَرَةَ الزَّيْتُونِ بِلَقَبِ «لَا وَلَا» بِقَوْلِهِ فِي الْمَقَامَةِ السَّادِسَةِ وَالْأَرْبَعِينَ «بُورِكَ فِيكَ مِنْ طَلَا.

كَمَا بُورِكَ فِي لَا وَلَا» أَيْ فِي الشَّجَرَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِي شَأْنِهَا: لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ.

ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى: لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ أَنَّهَا نَابِتَةٌ فِي مَوْضِعٍ بَيْنَ شَرْقِ بِلَادِ الْعَرَبِ وَغَرْبِهَا وَذَلِكَ هُوَ الْبِلَادُ الشَّامِيَّةُ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ أَصْلَ مَنْبَتِ شَجَرَةِ الزَّيْتُونِ بِلَادُ الشَّامِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ جِهَةَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ مِنْ بَيْنِ مَا يَحُفُّ بِهَا مَنْ شَجَرِ الزَّيْتُونِ مَوْقِعٌ غَيْرُ شَرْقِ الشَّمْسِ وَغَرْبِهَا وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مُتَّجِهَةً إِلَى الْجَنُوبِ، أَيْ لَا يَحْجُبُهَا عَنْ جِهَةِ الْجَنُوبِ حَاجِبٌ وَذَلِكَ


(١) تَمام الْقَرِينَة: «وَلَا مَخَافَة وَلَا سآمة» .