مِنْ حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ بِقَرِينَةِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ قِصَّةِ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ يَوْمَئِذٍ، فَإِنَّهُ بِسَبَبِ خُصُومَةٍ فِي مَالٍ فَكَانَ مَعْنَى الْخُرُوجِ مِنَ الْمَالِ أَسْبِقُ فِي الْقَصْدِ. وَاقْتَصَرَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَيَخْرُجُنَّ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَدِيَارِهِمْ. وَاقْتَصَرَ الطَّبَرِيُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَيَخْرُجُنَّ إِلَى الْجِهَادِ عَلَى اخْتِلَافِ الرَّأْيَيْنِ فِي سَبَبِ النُّزُولِ.
وَالْإِقْسَامُ: النُّطْقُ بِالْقِسْمِ، أَيِ الْيَمِينِ.
وَضَمِيرُ أَقْسَمُوا
عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضمير وَيَقُولُونَ [النُّور: ٤٧] . وَالتَّعْبِير بِفِعْلِ الْمُضِيِّ هُنَا لِأَنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ وَقَعَ وَانْقَضَى.
وَالْجَهْدُ- بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْهَاءِ- مُنْتَهَى الطَّاقَةِ. وَلِذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَشَقَّةِ كَمَا
فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ «فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ»
لِأَنَّ الْأَمْرَ الشَّاقَّ لَا يَعْمَلُ إِلَّا بِمُنْتَهَى الطَّاقَةِ. وَهُوَ مَصْدَرُ «جَهَدَ» كَمَنَعَ مُتَعَدِّيًا إِذَا أَتْعَبَ غَيْرَهُ.
وَنَصْبُ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ أَقْسَمُوا
عَلَى تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ كَقَوْلِهِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الْأَعْرَاف: ١٨٧] ، أَيْ جَاهِدِينَ.
وَالتَّقْدِيرُ: جَاهِدِينَ أَنْفُسَهُمْ، أَيْ بَالِغِينَ بِهَا أَقْصَى الطَّاقَةِ وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ التَّجْرِيدِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُمْ كَرَّرُوا الْأَيْمَانَ وَعَدَّدُوا عِبَارَاتِهَا حَتَّى أَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ لِيُوهِمُوا أَنَّهُمْ صَادِقُونَ فِي أَيْمَانِهِمْ. وَإِضَافَةُ جَهْدَ
إِلَى أَيْمانِهِمْ
عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِضَافَةٌ عَلَى مَعْنَى (مِنْ) ، أَيْ جهدا ناشئا عَن أَيْمَانِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَهْدَ
مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْوَاقِعِ بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ.
وَالتَّقْدِيرُ: جَهَدُوا أَيْمَانَهُمْ جَهْدًا. وَالْفِعْلُ الْمُقَدَّرُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ أَقْسَمُوا.
وَالتَّقْدِيرُ: أَقْسَمُوا يُجْهِدُونَ أَيْمَانَهُمْ جَهْدًا. وَإِضَافَةُ جَهْدَ
إِلَى أَيْمانِهِمْ
عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ جَعَلَتِ الْأَيْمَانَ كَالشَّخْصِ الَّذِي لَهُ جَهْدٌ، فَفِيهِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ، وَرَمْزٌ إِلَى الْمُشَبَّهِ