الِاسْتِئْصَالِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ آيَةِ سُورَةِ الْغَاشِيَةِ الْعِبْرَةُ بِكَيْفِيَّةِ خَلْقِهِ الْإِبِلَ لِمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ عَجِيبِ الْمَنَافِعِ، وَكَذَلِكَ الْآيَتَانِ الْأَخِيرَتَانِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمَقَامُ هُنَا مَقَامَ إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ الْحَقِّ لِلَّهِ تَعَالَى، أُوثِرَ تَعَلُّقُ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ بِاسْمِ الذَّاتِ ابْتِدَاءً ثُمَّ مَجِيءُ الْحَالِ بَعْدَ ذَلِكَ مَجِيئًا كَمَجِيءِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ نُوحٍ [١٥] أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ دُونَ أَنْ يُقَالَ: أَلَمْ تَرَوْا رَبَّكُمْ كَيْفَ خَلَقَ، لِأَنَّ قَوْمَهُ كَانُوا مُتَصَلِّبِينَ فِي الْكُفْرِ وَكَانَ قَدْ جَادَلَهُمْ فِي اللَّهِ غَيْرَ مَرَّةٍ فَعَلِمَ أَنَّهُ إِنِ ابْتَدَأَهُمْ بِالدَّعْوَةِ إِلَى النَّظَرِ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ فَلَمْ يَسْمَعُوا إِلَيْهِ فَبَادَأَهُمْ بِاسْتِدْعَاءِ النَّظَرِ إِلَى كَيْفِيَّةِ الْخَلْقِ.
وَعَلَى كُلٍّ فَإِنَّ كَيْفَ هُنَا مُجَرَّدَةٌ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ وَهِيَ اسْمٌ دَالٌّ عَلَى الْكَيْفِيَّةِ فَهِيَ فِي مَحَلٍّ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ مِنْ رَبِّكَ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ إِلَى هَيْئَةِ مَدِّهِ الظِّلَّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ خُرُوجِ (كَيْفَ) عَنِ الِاسْتِفْهَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانِ [٦] ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو النَّهَارُ مِنْ وُجُودِ الظِّلِّ.
وَفِي وُجُودِ الظِّلِّ دَقَائِقُ مِنْ أَحْوَالِ النِّظَامِ الشَّمْسِيِّ فَإِنَّ الظِّلَّ مِقْدَارٌ مُحَدَّدٌ مِنَ الظُّلْمَةِ
يَحْصُلُ مِنْ حَيْلُولَةِ جِسْمٍ بَيْنَ شُعَاعِ الشَّمْسِ وَبَيْنَ الْمَكَانِ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ الشُّعَاعُ فَيَنْطَبِعُ عَلَى الْمَكَانِ مِقْدَارٌ مِنَ الظِّلِّ مُقَدَّرٌ بِمِقْدَارِ كَيْفِيَّةِ الْجِسْمِ الْحَائِلِ بَيْنَ الشُّعَاعِ وَبَيْنَ مَوْقِعِ الشُّعَاعِ عَلَى حَسَبِ اتِّجَاهِ ذَلِكَ الْجِسْمِ الْحَائِلِ مِنْ جِهَتِهِ الدَّقِيقَةِ أَوِ الضَّخْمَةِ، وَيَكُونُ امْتِدَادُ تِلْكَ الظلمَة المكيّفية بِكَيْفِيَّةِ ذَلِكَ الْجِسْمِ مُتَفَاوِتًا عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِ بُعْدِ اتِّجَاهِ الْأَشِعَةِ مِنْ مَوْقِعِهَا وَمِنَ الْجِسْمِ الْحَائِلِ وَمُخْتَلِفًا بِاسْتِوَاءِ الْمَكَانِ وَتَحَدُّبِهِ، فَذَلِكَ التَّفَاوُتُ فِي مَقَادِيرِ ظِلِّ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَدِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ كُلَّمَا زَادَ مِقْدَار الظلمَة المكيّفية لِكَيْفِيَّةِ الْحَائِلِ زَادَ امْتِدَادُ الظِّلِّ. فَتِلْكَ كُلُّهَا دَلَائِلُ كَثِيرَةٌ مِنْ دَقَائِقِ التَّكْوِينِ الْإِلَهِيِّ وَالْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ.
وَقَدْ أَفَادَ هَذَا الْمَعْنَى كَامِلًا فِعْلُ مَدَّ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute