وَهَذَا الِامْتِدَادُ يَكْثُرُ عَلَى حَسَبِ مُقَابَلَةِ الْأَشِعَةِ لِلْحَائِلِ فَكُلَّمَا اتَّجَهَتِ الْأَشِعَةُ إِلَى الْجِسْمِ مِنْ أَخْفَضِ جِهَةٍ كَانَ الظِّلُّ أَوْسَعَ، وَإِذَا اتَّجَهَتْ إِلَيْهِ مُرْتَفِعَةً عَنْهُ تَقَلَّصَ ظِلُّهُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا إِلَى أَنْ تَصِيرَ الْأَشِعَةُ مُسَامِتَةً أَعْلَى الْجِسْمِ سَاقِطَةً عَلَيْهِ فَيَزُولَ ظِلُّهُ تَمَامًا أَوْ يَكَادُ يَزُولُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أَيْ غَيْرَ مُتَزَايِدٍ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَدُّ الظِّلِّ يُشْبِهُ صُورَةَ التَّحَرُّكِ أُطْلِقَ عَلَى انْتِفَاءِ الِامْتِدَادِ اسْمُ السُّكُونِ بِأَنْ يُلَازِمَ مِقْدَارًا وَاحِدًا لَا يَنْقُصُ وَلَا يَزِيدُ، أَيْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَ الْأَرْضَ ثَابِتَةً فِي سَمْتٍ وَاحِدٍ تِجَاهَ أَشِعَةِ الشَّمْسِ فَلَا يَخْتَلِفُ مِقْدَارُ ظَلِّ الْأَجْسَامِ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ وَتَلْزَمُ ظِلَالُهَا حَالَةً وَاحِدَةً فَتَنْعَدِمُ فَوَائِدُ عَظِيمَةٌ.
وَدَلَّتْ مُقَابَلَةُ قَوْلِهِ: مَدَّ الظِّلَّ بِقَوْلِهِ لَجَعَلَهُ ساكِناً عَلَى حَالَةٍ مَطْوِيَّةٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَهِيَ حَالَةُ عُمُومِ الظِّلِّ جَمِيعَ وَجْهِ الْأَرْضِ، أَيْ حَالَةُ الظُّلْمَةِ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي سَبَقَتِ اتِّجَاهَ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ إِلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُ التَّوْرَاةِ «وَكَانَتِ الْأَرْضُ خَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْقَمَرِ ظُلْمَةٌ» ثُمَّ قَالَ «وَقَالَ اللَّهُ لِيَكُنْ نُورٌ فَكَانَ نُورٌ ... » وَفَصَلَ اللَّهُ بَيْنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ (إِصْحَاحُ وَاحِدٍ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ) ، فَاسْتِدْلَالُ الْقُرْآنِ بِالظِّلِّ أَجْدَى مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالظُّلْمَةِ لِأَنَّ الظُّلْمَةَ عَدَمٌ لَا يَكَادُ يَحْصُلُ الشُّعُورُ بِجَمَالِهَا بِخِلَافِ الظِّلِّ فَهُوَ جَامِعٌ بَيْنَ الظُّلْمَةِ وَالنُّورِ فَكِلَا دَلَالَتَيْهِ وَاضِحَةٌ.
وَجُمْلَةُ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً مُعْتَرِضَةٌ لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّ فِي الظِّلِّ مِنَّةً.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ مَدَّ الظِّلَّ وَأَفَادَتْ ثُمَّ أَنَّ مَدْلُولَ الْمَعْطُوفِ بِهَا مُتَرَاخٍ فِي الرُّتْبَةِ عَنْ مَدْلُولِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ شَأْنَ ثُمَّ إِذَا عَطَفَتِ الْجُمْلَةَ. وَمَعْنَى تَرَاخِي الرُّتْبَةِ أَنَّهَا أَبْعَدُ اعْتِبَارًا، أَيْ أَنَّهَا أَرْفَعُ فِي التَّأْثِيرِ أَوْ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّ وُجُودَ الشَّمْسِ هُوَ عِلَّةُ وُجُودِ الظِّلِّ لِلْأَجْسَامِ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ وَالسَّبَبُ أَرْفَعُ رُتْبَةً مِنَ الْمُسَبَّبِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ مَدَّ الظِّلَّ بِأَنْ جَعَلَ الشَّمْسَ دَلِيلًا عَلَى مَقَادِيرِ امْتِدَادِهِ. وَلَمْ
يُفْصِحِ الْمُفَسِّرُونَ عَنْ مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِفْصَاحًا شَافِيًا.
وَالِالْتِفَاتُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ جَعَلْنَا لِأَنَّ ضَمِيرَ الْمُتَكَلِّمِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute