للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَجُعِلَ التَّقْرِيرُ عَلَى نَفْيِ التَّرْبِيَةِ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِقْرَارُ بِوُقُوعِ التَّرْبِيَةِ مُجَارَاةً لِحَالِ مُوسَى فِي نَظَرِ فِرْعَوْنَ إِذْ رَأَى فِي هَذَا الْكَلَامِ جُرْأَةً عَلَيْهِ لَا تُنَاسِبُ حَالَ مَنْ هُوَ مَمْنُونٌ لِأُسْرَتِهِ بِالتَّرْبِيَةِ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي الْمَحَبَّةَ وَالْبِرَّ، فَكَأَنَّهُ يُرْخِي لَهُ الْعِنَان بِتَلْقِينِ أَنْ يَجْحَدَ أَنَّهُ مُرَبًّى فِيهِمْ حَتَّى إِذَا أَقَرَّ وَلَمْ يُنْكِرْ كَانَ الْإِقْرَارُ سَالِمًا مِنَ التَّعَلُّلِ بِخَوْفٍ أَوْ ضَغْطٍ، فَهَذَا وَجْهُ تَسْلِيطِ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ عَلَى النَّفْيِ فِي حِينِ أَنَّ الْمُقَرَّرَ بِهِ ثَابِتٌ. وَهَذَا كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ الَّذِي طَالَ عَهْدُكَ بِرُؤْيَتِهِ: أَلَسْتَ فُلَانًا، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَجَّاجِ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ يُهَدِّدُ الْخَوَارِجَ «أَلَسْتُمْ أَصْحَابِي بِالْأَهْوَازِ» .

وَالتَّقْرِيرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِهِ وَهُوَ أَنْ يُقَابِلَ الْمُقَرَّرَ عَلَيْهِ بِالْبِرِّ وَالطَّاعَةِ لَا بِالْجَفَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الِاسْتِفْهَام إِنْكَارِيًّا عَلَيْهِ لِأَنَّ لِسَانَ حَالِ مُوسَى فِي نَظَرِ فِرْعَوْنَ حَالُ مَنْ يَجْحَدُ أَنَّهُ مُرَبًّى فِيهِمْ وَمَنْ يُظَنُّ نِسْيَانُهُمْ لِفَعْلَتِهِ فَأَنْكَرَ فِرْعَوْنُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَكِلَّا الْوَجْهَيْنِ لَا يَخْلُو مِنْ تَنْزِيلِ مُوسَى مَنْزِلَةَ مَنْ يَجْحَدُ ذَلِكَ.

وَالتَّرْبِيَةُ: كَفَالَةُ الصَّبِي وتدبير شؤونه. وَمَعْنَى فِينا فِي عَائِلَتِنَا، أَيْ عَائِلَةِ مَلِكِ مِصْرَ. وَالْوَلِيدُ: الطِّفْلُ مِنْ وَقْتِ وِلَادَتِهِ وَمَا يُقَارِبُهَا فَإِذَا نَمَى لَمْ يُسَمَّ وَلِيدًا وَسُمِّي طِفْلًا، وَيَعْنِي بِذَلِكَ الْتِقَاطَهُ مِنْ نَهْرِ النِّيلِ. وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى رُبِّيَ عِنْدَ (رَعَمْسِيسَ الثَّانِي) مِنْ مُلُوكِ الْعَائِلَةِ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ مِنْ عَائِلَاتِ فَرَاعِنَةِ مِصْرَ حَسَبَ تَرْتِيبِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ.

وَخَرَجَ مُوسَى مِنْ مِصْرَ بَعْدَ أَنْ قَتَلَ الْقِبْطِيَّ وَعُمُرُهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا بَلَغَ

أَشُدَّهُ وَاسْتَوى

آتَيْنَاهُ حُكْمًا إِلَى قَوْلِهِ: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ [الْقَصَص: ١٤، ١٥] الْآيَةَ وَبُعِثَ وَعُمُرُهُ ثَمَانُونَ سَنَةً حَسْبَمَا فِي التَّوْرَاةِ (١) . وَكَانَ فِرْعَوْنُ الَّذِي بُعِثَ إِلَيْهِ مُوسَى هُوَ (مِنْفِتَاحُ الثَّانِي ابْن رَعْمَسِيسَ الثَّانِي) وَهُوَ الَّذِي خَلَفَهُ فِي الْمُلْكِ بَعْدَ وَفَاتِهِ أَوَاسِطَ الْقَرْنِ الْخَامِسَ عَشَرَ قَبْلَ الْمَسِيحِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ مُوسَى مُرَبَّى وَالِدِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا، وَلَعَلَّهُ رُبِّيَ مَعَ فِرْعَوْنَ هَذَا كالأخ.

والسنين الَّتِي لَبِثَهَا مُوسَى فِيهِمْ هِيَ نَحْوُ أَرْبَعِينَ سَنَةً.


(١) انْظُر الإصحاح السَّابِع من سفر الْخُرُوج.