للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فِي نَفْسِهِ وَرُوَاتُهُ صَادِقُونَ فِيمَا رَوَوْا وَهَذَا عُذْرٌ قَبِيحٌ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ أُسْنِدَتْ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي «تَفْسِيرِهِ» وَقَدْ كَانَ الشُّيُوخُ يُخَطِّئُونَ ابْنَ عَطِيَّةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَجْلِ ذِكْرِهِ الْقِصَّةَ وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْقَرَافِيِّ أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ فِي

حَقِّ هَارُوتَ وَمَارُوتَ.

وَقَوْلُهُ: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ «هاروت وماروت» و (مَا) نَافِيَةٌ وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ لِحِكَايَةِ الْحَالِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُمَا لِمُتَعَلِّمِي السِّحْرِ إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ قَوْلٌ مُقَارِنٌ لِوَقْتِ التَّعْلِيمِ لَا مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهُمَا كَانَا مُعَلِّمَيْنِ وَطَوَى ذَلِكَ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِمَضْمُونِ هَاتِهِ الْجُمْلَةِ فَهُوَ مِنْ إِيجَازِ الْحَذْفِ أَوْ هُوَ مِنْ لَحْنِ الْخِطَابِ مَفْهُومٌ لِلْغَايَةِ.

وَقَوْلُهُ: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ الْفِتْنَةُ لَفْظٌ يَجْمَعُ مَعْنَى مَرَجٍ وَاضْطِرَابِ أَحْوَالِ أَحَدٍ وَتَشَتُّتِ بَالِهِ بِالْخَوْفِ وَالْخَطَرِ عَلَى الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ عَلَى غَيْرِ عَدْلٍ وَلَا نِظَامٍ وَقَدْ تُخَصَّصُ وَتُعَمَّمُ بِحَسَبِ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ أَوْ بِحَسَبِ الْمَقَامِ يُقَالُ فِتْنَةُ الْمَالِ وَفِتْنَةُ الدِّينِ.

وَلِمَا كَانَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ يَخْتَلِفُ ثَبَاتُ النَّاسِ فِيهَا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ رَجَاحَةِ عُقُولِهِمْ وَصَبْرِهِمْ وَمَقْدِرَتِهِمْ عَلَى حُسْنِ الْمَخَارِجِ مِنْهَا كَانَ مِنْ لَوَازِمِهَا الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ فَكَانَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي يُكَنَّى بِالْفِتْنَةِ عَنْهَا كَثِيرًا وَلِذَلِكَ تَسَامَحَ بَعْضُ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ فَفَسَّرَ الْفِتْنَةَ بِالِابْتِلَاءِ وَجَرَّأَهُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّاسِ فَتَنْتُ الذَّهَبَ أَوِ الْفِضَّةَ إِذَا أَذَابَهُمَا بِالنَّارِ لِتَمْيِيزِ الرَّدِيءِ مِنَ الْجَيِّدِ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُوَلَّدًا فَإِنَّ مَعْنَى الِاخْتِبَارِ غَيْرُ مَنْظُورٍ إِلَيْهِ فِي لَفْظِ الْفِتْنَةِ وَإِنَّمَا الْمَنْظُورُ إِلَيْهِ مَا فِي الْإِذَابَةِ مِنَ الِاضْطِرَابِ وَالْمَرَجِ وَقَدْ سَمَّى الْقُرْآنُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ فِتْنَةً وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [البروج: ١٠] وَقَالَ: لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ [الْأَعْرَاف: ٢٧] . وَالْإِخْبَارُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ فِتْنَةٌ إِخْبَارٌ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ وَقَدْ أُكِّدَتِ الْمُبَالَغَةُ بِالْحَصْرِ الْإِضَافِيِّ وَالْمَقْصِدُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمَا كَانَا يُصَرِّحَانِ أَنْ لَيْسَ فِي عِلْمِهِمَا شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ الْإِلَهِيِّ وَأَنَّهُ فِتْنَةٌ مَحْضَةٌ ابْتِلَاءٌ مِنَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ فِي مِقْدَارِ تَمَسُّكِهِمْ بِدِينِهِمْ وَإِنَّمَا كَانَا فِتْنَةً لِأَنَّ كُلَّ مَنْ تَعَلَّمَ مِنْهُمَا عَمِلَ بِهِ. فَلَا تَكْفُرْ كَمَا كَفَرَ السَّحَرَةُ حِينَ نَسَبُوا التَّأْثِيرَاتِ لِلْآلِهَةِ وَقَدْ عَلِمْتَ سِرَّهَا. وَفِي هَذَا مَا يُضْعِفُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصِدُ مِنْ تَعْلِيمِهِمَا النَّاسَ السِّحْرَ إِظْهَارَ كَذِبِ السَّحَرَةِ الَّذِينَ نَسَبُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْأُلُوهِيَّةِ أَوِ النُّبُوءَةِ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ قَوْلَهُمَا: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ فَجَعَلَا كَثْرَةَ افْتِتَانِ النَّاسِ بِالسِّحْرِ الَّذِي تَصَدَّيَا لِتَعْلِيمِهِ بِمَنْزِلَةِ انْحِصَارِ أَوْصَافِهِمَا فِي الْفِتْنَةِ وَوَجْهُ