للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ابْتِدَائِهِمَا لِمَنْ يُعَلِّمَانِهِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنْ يُبَيِّنَا لَهُ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ فِي مَبَادِئِهِ يَظْهَرُ كَأَنَّهُ فِتْنَةٌ وَشَرٌّ فَيُوشِكُ أَنْ يَكْفُرَ مُتَعَلِّمُهُ عِنْدَ مُفَاجَأَةِ تِلْكَ التَّعَالِيمِ إِيَّاهُ إِذَا كَانَتْ نَفْسُهُ قَدْ تَوَطَّنَتْ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّ ظُهُورَ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ عَلَّامَةٌ عَلَى أُلُوهِيَّةِ مَنْ يُظْهِرُهَا، وَقَوْلُهُمَا:

فَلا تَكْفُرْ أَيْ لَا تَعْجَلْ بِاعْتِقَادِ ذَلِكَ فِينَا فَإِنَّكَ إِذَا تَوَغَّلْتَ فِي مَعَارِفِ السِّحْرِ عَلِمْتَ أَنَّهَا مَعْلُولَةٌ لِعِلَلٍ مِنْ خَصَائِصِ النُّفُوسِ أَوْ خَصَائِصِ الْأَشْيَاءِ فَالْفِتْنَةُ تَحْصُلُ لِمَنْ يَتَعَلَّمُ السِّحْرَ حِينَ يَرَى ظَوَاهِرَهُ وَعَجَائِبَهُ عَلَى أَيْدِي السَّحَرَةِ وَلِمَنْ كَانَ فِي مَبْدَأِ التَّعْلِيمِ فَإِذَا تَحَقَّقَ فِي عِلْمِهِ انْدَفَعَتِ الْفِتْنَةُ فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِمَا فَلا تَكْفُرْ فالكفر هُوَ الْفِتْنَة وقولهما فَلا تَكْفُرْ بِمَنْزِلَةِ فَلَا تَفْتَتِنْ وَقَدِ انْدَفَعَ الْإِشْكَالُ الرَّابِعُ الْمُتَقَدِّمُ.

فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ.

تَفْرِيعٌ عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا الْمُقْتَضِي أَنَّ التَّعْلِيمَ حَاصِلٌ فَيَتَعَلَّمُونَ، وَالضَّمِيرُ فِي فَيَتَعَلَّمُونَ رَاجِعٌ لِأَحَدِ، الْوَاقِعِ فِي حَيِّزِ النَّفْي مَدْخُولا لمن الِاسْتِغْرَاقِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ فَإِنَّهُ بِمَعْنَى كُلُّ أَحَدٍ فَصَارَ مَدْلُولُهُ جَمْعًا.

قَوْلُهُ: مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ إِشَارَةٌ إِلَى جُزْئِيٍّ مِنْ جُزْئِيَّاتِ السِّحْرِ وَهُوَ أَقْصَى تَأْثِيرَاتِهِ إِذْ فِيهِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ طَرَفِي آصِرَةٍ مَتِينَةٍ إِذْ هِيَ آصِرَةُ مَوَدَّةٍ وَرَحْمَةٍ قَالَ تَعَالَى:

وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الرّوم: ٢١] فَإِنَّ الْمَوَدَّةَ وَحْدَهَا آصِرَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ آصِرَةُ الصَّدَاقَةِ وَالْأُخُوَّةِ وَتَفَارِيعِهِمَا، وَالرَّحْمَةُ وَحْدَهَا آصِرَةٌ مِنْهَا الْأُبُوَّةٌ وَالْبُنُوَّةٌ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِآصِرَةٍ جَمَعَتِ الْأَمْرَيْنِ وَكَانَتْ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا هُوَ بِجَعْلِ اللَّهِ فَهُوَ فِي أَقْصَى دَرَجَاتِ الْإِتْقَانِ وَقَدْ كَانَ يُشِيرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى شَيْخُنَا الْجَلِيلُ سَالِمٌ أَبُو حَاجِبٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً.

وَهَذَا التَّفْرِيقُ يَكُونُ إِمَّا بِاسْتِعْمَالِ مُفْسِدَاتٍ لِعَقْلِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ حَتَّى يُبْغِضَ زَوْجَهُ وَإِمَّا بِإِلْقَاءِ الْحِيَلِ وَالتَّمْوِيهَاتِ وَالنَّمِيمَةِ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا.

وَقَوْلُهُ: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ. وَضَمِيرُ هُمْ عَائِدٌ إِلَى (أَحَدٍ) مِنْ قَوْلِهِ: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ لِوُقُوعِهِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ كُلَّ أَحَدٍ مِنَ الْمُتَعَلِّمِينَ أَيْ وَمَا الْمُتَعَلِّمُونَ بِضَارِّينَ بِالسِّحْرِ أَحَدًا. وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ بِذَاتِهِ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ