كَانَ الشِّعْرُ كَذِبًا لَا قَرِينَةَ عَلَى مُرَادِ صَاحِبِهِ فَهُوَ قَبِيحٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ كَانَ كَذِبًا مُعْتَذَرًا عَنْهُ فَكَانَ غَيْرَ مَحْمُودٍ.
وَفِي هَذَا إِبْدَاءٌ لِلْبَوْنِ الشَّاسِعِ بَيْنَ حَالِ الشُّعَرَاءِ وَحَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَانَ لَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا وَلَا يُصَانِعُ وَلَا يَأْتِي بِمَا يُضَلِّلُ الْأَفْهَامَ.
وَمِنَ اللَّطَائِفِ أَنَّ الْفَرَزْدَقَ أَنْشَدَ عِنْدَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ قَوْلَهُ:
فَبِتْنَ بِجَانِبَيَّ مُصَرَّعَاتٍ ... وَبِتُّ أَفُضُّ أَغْلَاقَ الْخِتَامِ
فَقَالَ سُلَيْمَانُ: قَدْ وَجَبَ عَلَيْكَ الْحَدُّ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ دَرَأَ اللَّهُ عَنِّي الْحَدَّ بِقَوْلِهِ: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ. وَرُوِيَ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ نَضْلَةَ كَانَ عَامِلًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ شِعْرًا:
مَنْ مُبْلِغُ الْحَسْنَاءِ أَنَّ حَلِيلَهَا ... بِمَيْسَانَ يُسْقَى فِي زُجَاجٍ وَحَنْتَمِ
إِلَى أَنْ قَالَ:
لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَسُوءُهُ ... تَنَادُمُنَا بِالْجَوْسَقِ الْمُتَهَدِّمِ (١)
فَبَلَّغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: أَيْ وَاللَّهِ إِنِّي لَيَسُوءُنِي ذَلِكَ وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْكَ الْحَدُّ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا فَعَلْتُ شَيْئًا مِمَّا قُلْتُ وَإِنَّمَا كَانَ فَضْلَةً مِنَ الْقَوْلِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَمَّا عُذْرُكَ فَقَدْ دَرَأَ عَنْكَ الْحَدَّ وَلَكِنْ لَا تَعْمَلُ لِي عَمَلًا أَبَدًا وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ.
وَقَدْ كُنِّيَ بِاتِّبَاعِ الْغَاوِينَ إِيَّاهُمْ عَنْ كَوْنِهِمْ غَاوِينَ، وَأُفِيدَ بِتَفْظِيعِ تَمْثِيلِهِمْ بِالْإِبِلِ الْهَائِمَةِ تَشْوِيهُ حَالَتِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الشِّعْرِ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ إِنَاطَةُ الْخَبَرِ بِالْمُشْتَقِّ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ الشِّعْرَ مَنْظُورٌ إِلَيْهِ فِي الدِّينِ بِعَيْنِ الْغَضِّ مِنْهُ، وَاسْتِثْنَاءُ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِلَخْ ... مِنْ عُمُومِ الشُّعَرَاءِ، أَيْ مِنْ حُكْمِ ذَمِّهِمْ. وَبِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمَذْمُومِينَ هُمْ شُعَرَاءُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ شَغَلَهُمُ الشِّعْرُ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ.
(١) الْجَوْسَقِ: الْقصر، كَانَ أهل البطالة والخلاعة يأوون إِلَى الْقُصُور المتروكة.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute