للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَسِيَاسَةِ أُمَّتِهِ، مِثْلُ اسْتِخْدَامِ نَوْعِ الْهُدْهُدِ فِي إِبْلَاغِ الْأَخْبَارِ وَرَدِّهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَوَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ بالحكمة والمعرفة لكثير مِنْ طَبَائِعِ الْمَوْجُودَاتِ وَخَصَائِصِهَا. وَدَلَالَةُ أَصْوَاتِ الطَّيْرِ عَلَى مَا فِي ضَمَائِرِهَا: بَعْضُهَا مَشْهُورٌ كَدَلَالَةِ بَعْضِ أَصْوَاتِهِ عَلَى نِدَاءِ الذُّكُورِ لِإِنَاثِهَا، وَدَلَالَةِ بَعْضِهَا عَلَى اضْطِرَابِ الْخَوْفِ حِينَ يُمْسِكُهُ مُمْسِكٌ أَوْ يُهَاجِمُهُ كَاسِرٌ، وَوَرَاءَ ذَلِكَ دَلَالَاتٌ فِيهَا تَفْصِيلٌ، فَكُلُّ كَيْفِيَّةٍ مِنْ تِلْكَ الدَّلَالَاتِ الْإِجْمَالِيَّةِ تَنْطَوِي عَلَى تَقَاطِيعَ خَفِيَّةٍ مِنْ كَيْفِيَّاتٍ صَوْتِيَّةٍ يُخَالِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا فِيهَا دَلَالَاتٌ عَلَى أَحْوَالٍ فِيهَا تَفْضِيلٌ لِمَا أَجْمَلَتْهُ الْأَحْوَالُ الْمُجْمَلَةُ، فَتِلْكَ التَّقَاطِيعُ لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا النَّاسُ وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا خَالِقُهَا، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ دَلَالَةِ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ وَصِفَاتِهَا فِي لُغَةٍ مِنَ اللُّغَاتِ وَفَكِّهَا وَإِدْغَامِهَا وَاخْتِلَافِ حَرَكَاتِهَا عَلَى مَعَانٍ لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا مَنْ يَعْرِفُ تِلْكَ اللُّغَةَ مَعْرِفَةً ضَعِيفَةً وَلَمْ يُتْقِنْ دَقَائِقَهَا. مِثْلُ أَنْ يَسْمَعَ ضَلَلْتُ وَظَلِلْتُ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَطْلَعَ سُلَيْمَانَ بِوَحْيٍ عَلَى مُخْتَلَفِ التَّقَاطِيعِ الصَّوْتِيَّةِ الَّتِي فِي صَفِيرِ الطَّيْرِ وَأَعْلَمَهُ بِأَحْوَالِ نفوس الطير عِنْد مَا تَصْفُرُ بِتِلْكَ التَّقَاطِيعِ، وَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِي حِيرَةٍ مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْمَعَرِّي:

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّ ... تْ عَلَى غُصْنِ دَوْحِهَا الْمَيَّادِ

وَقَالَ صَاحِبُنَا الشَّاعِرُ الْبَلِيغُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَسْعُودِيُّ مِنْ أَبْيَاتٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى:

فَمَنْ كَانَ مَسْرُورًا يَرَاهُ تَغَنِّيًا ... وَمَنْ كَانَ مَحْزُونًا يَقُولُ يَنُوحُ

وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مَنْطِقِ الطَّيْرِ إِيجَازٌ لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَهِيَ أَبْعَدُ الْحَيَوَانِ عَنِ الرُّكُونِ إِلَى الْإِنْسَانِ وَأَسْرَعُهَا نُفُورًا مِنْهُ، عَلِمَ أَنَّ مَنْطِقَ مَا هُوَ أَكْثَرُ اخْتِلَاطًا بِالْإِنْسَانِ حَاصِلٌ لَهُ بِالْأَحْرَى كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِيمَا يَأْتِي قَرِيبًا: فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها [النَّمْل: ١٩] ، فَتَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ مَنْطِقَ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ الْحَيَوَانِ. وَهَذَا الْعِلْمُ

سَمَّاهُ الْعَرَبُ عَلِمَ الْحُكْلِ (بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْكَاف) قَالَ العجاج وَقِيلَ ابْنُهُ رُؤْبَةُ:

لَوْ أَنَّنِي أُوتِيتُ عِلْمَ الْحُكْلِ ... عِلْمَ سُلَيْمَانَ كَلَامَ النَّمْلِ