للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَجُمْلَةُ بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ ارْتِقَاءٌ ثَالِثٌ وَهُوَ آخِرُ دَرَجَاتِ الِارْتِقَاءِ فِي إِثْبَاتِ ضَلَالِهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ عُمْيَانٌ عَنْ شَأْنِ الْآخِرَةِ.

وعَمُونَ: جَمْعُ عَمٍ بِالتَّنْوِينِ وَهُوَ فَعِلٌ مِنَ الْعَمَى، صَاغُوا لَهُ مِثَالَ الْمُبَالَغَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شِدَّةِ الْعَمَى، وَهُوَ تَشْبِيهُ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْعَمَى، وَعَادِمُ الْعِلْمِ بِالْأَعْمَى. وَقَالَ زُهَيْرٌ:

وَأَعْلَمُ عِلْمَ الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ ... وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِ

فَشَبَّهَ ضَلَالَهُمْ عَنِ الْبَعْثِ بِالْعَمَى فِي عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْمَطْلُوبِ تَشْبِيهَ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ.

وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْها عَمُونَ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ، جَعَلَ عَمَاهُمْ وَضَلَالَهُمْ فِي إِثْبَاتِ الْآخِرَة كَأَنَّهُ ناشىء لَهُمْ مِنَ الْآخِرَةِ إِذْ هِيَ سَبَبُ عَمَاهُمْ، أَيْ إِنْكَارُهَا سَبَبُ ضَلَالِهِمْ. وَفِي الْكَلَامِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مِنْ إِنْكَارِ وَجُودِهَا عَمُونِ، فَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِ عَمُونَ.

وَقُدِّمَ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْمُتَعَلِّقِ وَلِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. وَصِيغَتِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الثَّبَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها.

وَتَرْتِيبُ هَذِهِ الْإِضْرَابَاتِ الثَّلَاثَةِ تَرْتِيبٌ لِتَنْزِيلِ أَحْوَالِهِمْ فَوُصِفُوا أَوَّلًا بِأَنَّهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِوَقْتِ الْبَعْثِ ثُمَّ بِأَنَّهُمْ تَلَقَّفُوا فِي شَأْنِ الْآخِرَةِ الَّتِي الْبَعْث من شؤونها عِلْمًا مُضْطَرِبًا أَوْ جَهْلًا فَخَبَطُوا فِي شَكٍّ وَمِرْيَةٍ، فَأَعْقَبَهُمْ عَمًى وَضَلَالَةٌ بِحَيْثُ إِنَّ هَذِهِ الِانْتِقَالَاتِ مُنْدَرِجَةٌ مُتَصَاعِدَةٌ حَتَّى لَوْ قِيلَ: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَهُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا فَهُمْ مِنْهَا

عَمُونَ لَحَصَلَ الْمُرَادُ. وَلَكِنْ جَاءَتْ طَرِيقَةُ التَّدَرُّجِ بِالْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ أَجْزَلَ وَأَبْهَجَ وَأَرْوَعَ وَأَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْ هَذِه الْأَحْوَال المترتبة جَدِيرٌ بِأَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ الْمُعْتَبِرُ بِاسْتِقْلَالِهِ لَا بِكَوْنِهِ مُتَفَرِّعًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَهَذَا الْبَيَانُ هُوَ مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ آنِفًا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ ادَّارَكَ مِنْ خَفَاءِ تَوْجِيهِ الْإِضْرَابَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَ الْإِضْرَابِ الْأَوَّلِ.

وَضَمَائِرُ جَمْعِ الْغَائِبِينَ فِي قَوْلِهِ يَشْعُرُونَ، ويُبْعَثُونَ، عِلْمُهُمْ، هُمْ فِي شَكٍّ، هُمْ مِنْها عَمُونَ عَائِدَةٌ إِلَى (مَنِ) الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ.