الْمَفْهُومِ مِنَ الْمَقَامِ إِذْ لَا يَقْضِي بِالْمَوْتِ غَيْرُهُ كَقَوْلِهِ فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ [سبأ: ١٤] . وَقِيلَ ضَمِيرُ فَقَضى عَائِدٌ إِلَى مُوسَى وَلَيْسَ هَذَا بِالْبَيِّنِ. فَالْمَعْنَى: فَوَكَزَهُ مُوسَى فَمَاتَ الْقِبْطِيُّ. وَكَانَ هَذَا قَتْلَ خَطَأٍ صَادَفَ الْوَكْزُ مَقَاتِلَ الْقِبْطِيِّ وَلَمْ يُرِدْ مُوسَى قَتْلَهُ. وَوَقَعَ فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ مِنَ التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي أَنَّ مُوسَى لَمَّا رَأَى الْمِصْرِيَّ يَضْرِبُ الْعِبْرَانِيَّ الْتَفَتَ هُنَا وَهُنَاكَ وَرَأَى أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ فَقَتَلَ الْمِصْرِيَّ وَطَمَرَهُ فِي الرَّمْلِ.
وَجُمْلَةُ قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ: مَاذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ مُوسَى حِين فوجىء بِمَوْتِ الْقِبْطِيِّ. وَحِكَايَةُ ذَلِكَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مُوسَى لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ حِينَئِذٍ إِلَّا النَّظَرُ فِي الْعَاقِبَةِ الدِّينِيَّةِ. وَقَوْلُهُ هُوَ كَلَامُهُ فِي نَفْسِهِ.
وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الضَّرْبَةِ الشَّدِيدَةِ الَّتِي تَسَبَّبَ عَلَيْهَا الْمَوْتُ أَوْ إِلَى الْمَوْتِ الْمُشَاهَدِ مِنْ ضَرْبَتِهِ، أَوْ إِلَى الْغَضَبِ الَّذِي تَسَبَّبَ عَلَيْهِ مَوْتُ الْقِبْطِيِّ. وَالْمَعْنَى: أَن الشَّيْطَان أَو قد غَضَبَهُ حَتَّى بَالَغَ فِي شِدَّةِ الْوَكْزِ. وَإِنَّمَا قَالَ مُوسَى ذَلِكَ لِأَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ مُسْتَقْبَحٌ فِي الشَّرَائِعِ الْبَشَرِيَّةِ فَإِنَّ حِفْظَ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ مِنْ أُصُولِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا. وَكَانَ مُوسَى يَعْلَمُ دِينَ آبَائِهِ لَعَلَّهُ بِمَا تَلَقَّاهُ مِنْ أُمِّهِ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ فِي مُدَّةِ رَضَاعِهِ وَفِي مُدَّةِ زِيَارَتِهِ إِيَّاهَا.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ تَعْلِيلٌ لِكَوْنِ شِدَّةِ غَضَبِهِ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ لَوْلَا الْخَاطِرُ الشَّيْطَانِيُّ لاقتصر على زجر الْقِبْطِيِّ أَوْ كَفَّهُ عَنِ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ، فَلَمَّا كَانَ الشَّيْطَانُ عَدُوًّا لِلْإِنْسَانِ وَكَانَتْ لَهُ مَسَالِكُ إِلَى النُّفُوسِ اسْتَدَلَّ مُوسَى بِفِعْلِهِ الْمُؤَدِّي إِلَى قَتْلِ نَفْسٍ أَنه
فعل ناشىء عَنْ وَسْوَسَة الشَّيْطَان وَلَو لَاها لَكَانَ عَمَلُهُ جَارِيًا عَلَى الْأَحْوَالِ الْمَأْذُونَةِ.
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ هُوَ الْخَيْرُ وَأَنَّهُ الْفِطْرَةُ وَأَنَّ الِانْحِرَافَ عَنْهَا يَحْتَاجُ إِلَى سَبَبٍ غَيْرِ فِطْرِيٍّ وَهُوَ تَخَلُّلُ نَزْغِ الشَّيْطَانِ فِي النَّفْسِ.
وَمُتَعَلِّقُ عَدُوٌّ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ أَيْ عَدُوٌّ لِآدَمَ وَذُرِّيَّةِ آدَمَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute