قِلَّةِ الْعِلْمِ فَكَيْفَ يَتَطَلَّعُونَ إِلَى عِلْمِ أَعْظَمِ حَوَادِثِ هَذَا الْعَالَمِ وَهُوَ حَادِثُ فَنَائِهِ وَانْقِرَاضِهِ وَاعْتِيَاضِهِ بِعَالَمِ الْخُلُودِ. وَهَذَا النَّفْيُ لِلدِّرَايَةِ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ عَنْ كُلِّ نَفْسٍ فِيهِ كِنَايَةٌ عَنْ إِثْبَاتِ الْعِلْمِ بِمَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَالْعِلْمُ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ فِيهَا كُلُّ نَفْسٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَحَصَلَتْ إِفَادَةُ اخْتِصَاصِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ فَكَانَا فِي ضميمة مَا انْتَظَمَ مَعَهُمَا مِمَّا تَقَدَّمَهُمَا.
وَعَبَّرَ فِي جَانِبِ نَفْيِ مَعْرِفَةِ النَّاسِ بِفِعْلِ الدِّرَايَةِ لِأَنَّ الدِّرَايَةَ عِلْمٌ فِيهِ مُعَالَجَةٌ لِلِاطِّلَاعِ عَلَى الْمَعْلُومِ وَلِذَلِكَ لَا يُعَبَّرُ بِالدِّرَايَةِ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُقَالُ: اللَّهُ يَدْرِي كَذَا، فَيُفِيدُ:
انْتِفَاءَ عِلْمِ النَّاسِ بَعْدَ الْحِرْصِ عَلَى عِلْمِهِ. وَالْمَعْنَى: لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِمَا بِقَوْلِهِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ. وَقَدْ عَلَّقَ فِعْلَ الدِّرَايَةِ عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولَيْنِ بِوُقُوعِ الِاسْتِفْهَامَيْنِ بَعْدَهُمَا، أَيْ مَا تَدْرِي هَذَا السُّؤَالَ، أَيْ جَوَابَهُ. وَقَدْ حَصَلَ إِفَادَةُ اخْتِصَاصِ اللَّهِ تَعَالَى بِعِلْمِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ بِأَفَانِينَ بَدِيعَةٍ مِنْ أَفَانِينِ الْإِيجَازِ الْبَالِغِ حَدَّ الْإِعْجَازِ.
وَلُقِّبَتْ هَذِهِ الْخَمْسَةُ فِي كَلَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَفَاتِحِ الْغَيْبِ وَفُسِّرَ بِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الْأَنْعَام: ٥٩] .
فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ» ثُمَّ قَرَأَ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ
الْآيَةَ،
وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: « ... فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عَلِمُ السَّاعَةِ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ جِبْرِيلَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ ... »
. وَمَعْنَى حَصْرِ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ فِي هَذِهِ الْخَمْسَةِ: أَنَّهَا هِيَ الْأُمُورُ الْمُغَيَّبَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِأَحْوَالِ النَّاسِ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَأَنَّ التَّعْبِيرَ عَنْهَا بِالْمَفَاتِحِ أَنَّهَا تَكُونُ مَجْهُولَةً لِلنَّاسِ فَإِذَا وَقَعَتْ فَكَأَنَّ وُقُوعَهَا فَتْحٌ لِمَا كَانَ مُغْلَقًا وَأَمَّا بَقِيَّةُ أَحْوَالِ النَّاسِ فَخَفَاؤُهَا عَنْهُمْ مُتَفَاوِتٌ وَيُمْكِنُ لِبَعْضِهِمْ تَعْيِينُهَا مِثْلُ تَعْيِيِنِ يَوْمِ كَذَا لِلزِّفَافِ وَيَوْمِ كَذَا لِلْغَزْوِ وَهَكَذَا مَوَاقِيتُ الْعِبَادَاتِ وَالْأَعْيَادِ، وَكَذَلِكَ مُقَارَنَاتُ الْأَزْمِنَةِ مِثْلَ: يَوْمِ كَذَا مَدْخَلُ الرَّبِيعِ فَلَا تَجِدُ مُغَيَّبَاتٍ لَا قِبَلَ لِأَحَدٍ بِمَعْرِفَةِ وُقُوعِهَا مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي هَذَا الْعَالَمِ غَيْرَ هَذِهِ الْخَمْسَةِ فَأَمَّا فِي الْعَوَالِمِ الْأُخْرَى وَفِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ فَالْمُغَيَّبَاتُ عَنْ عِلْمِ النَّاسِ كَثِيرَةٌ وَلَيْسَتْ لَهَا مَفَاتِحُ عِلْمٍ فِي هَذَا الْعَالَمِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute