للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَأُرِيدَ بِقَوْلِهِ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أَرْسَلْنَا مُوسَى، فَذِكْرُ إِيتَائِهِ الْكِتَابَ كِنَايَةً عَنْ إِرْسَالِهِ، وَإِدْمَاجُ ذِكْرِ الْكِتابَ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ مُوسَى وَلَيْسَ دَاخِلًا فِي تَنْظِيرِ حَالِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تَكْذِيبِ قَوْمِهِ إِيَّاهُ لِأَنَّ مُوسَى لَمْ يُكَذِّبْهُ قَوْمُهُ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ الْآيَاتِ، وَلِيَتَأَتَّى مِنْ وَفْرَةِ الْمَعَانِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا لَا يَتَأَتَّى بِدُونِ ذِكْرِ الْكِتابَ.

وَجُمْلَةُ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ مُعْتَرِضَةٌ وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بِالْفَاءِ، وَمِثْلُهُ وَارِدٌ كَثِيرًا فِي الْكَلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما الْآيَةَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٣٥] . وَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ فِي سُورَةِ ص [٥٧] .

وَالْمِرْيَةُ: الشَّكُّ وَالتَّرَدُّدُ. وَحَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ مَجَازٌ فِي شِدَّةِ الْمُلَابَسَةِ، أَيْ لَا يَكُنِ الشَّكُّ مُحِيطًا بِكَ وَمُتَمَكِّنًا مِنْكَ، أَيْ لَا تَكُنْ مُمْتَرِيًا فِي أَنَّكَ مِثْلَهُ سَيَنَالُكَ مَا نَالَهُ مِنْ قَوْمِهِ.

وَالْخِطَابُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالنَّهْيُ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ عَلَى انْتِفَاءِ الشَّكِّ فَهُوَ نَهْيٌ مَقْصُودٌ مِنْهُ التَّثْبِيتُ كَقَوْلِهِ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ [هود: ١٠٩] ، وَلَيْسَ لِطَلَبِ إِحْدَاثِ انْكِفَافٍ عَنِ الْمِرْيَةِ لِأَنَّهَا لَمْ تَقَعْ مِنْ قَبْلُ.

وَاللِّقَاءُ: اسْمُ مَصْدَرِ لَقِيَ وَهُوَ الْغَالِبُ فِي الِاسْتِعْمَالِ دُونَ لِقًى الَّذِي هُوَ الْمَصْدَرُ الْقِيَاسِيُّ. وَاللِّقَاءُ: مُصَادَفَةُ فَاعِلِ هَذَا الْفِعْلِ مَفْعُولَهُ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الْإِصَابَةِ كَمَا يُقَالُ:

لَقِيتُ عَنَاءً، وَلَقِيتُ عَرَقَ الْقِرْبَةِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ، أَيْ لَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ فِي أَنْ يُصِيبَكَ مَا أَصَابَهُ، وَضَمِيرُ الْغَائِبِ عَائِدٌ إِلَى مُوسَى. وَاللِّقَاءُ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ، أَيْ مِمَّا لَقِيَ

مُوسَى مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ مِنْ تَكْذِيبٍ، أَيْ مِنْ مِثْلِ مَا لَقِيَ مُوسَى، وَهَذَا الْمُضَافُ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ أَوْ يَكُونُ جَارِيًا عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ كَقَوْلِهِ: هُوَ الْبَدْرُ، أَيْ: مِنْ لِقَاءٍ كَلِقَائِهِ، فَيَكُونُ هَذَا فِي مَعْنَى آيَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَرَدَتْ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ [الْأَنْعَام: ١٠] فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا [الْأَنْعَام:

٣٤] ، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا [الْإِسْرَاء: ٧٦، ٧٧] .