مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُدَبِّرُونَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ الْمَكَايِدَ وَيُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ يَنْصَحُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُلِحُّونَ عَلَيْهِ بِالطَّلَبَاتِ نُصْحًا تَظَاهُرًا بِالْإِسْلَامِ.
وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ الْمُجَاهِرُونَ بِالْكُفْرِ لِأَنَّهُ قُوبِلَ بِالْمُنَافِقِينَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا الْمُشْرِكِينَ كَمَا هُوَ غَالِبُ إِطْلَاقِ هَذَا الْوَصْفِ فِي الْقُرْآنِ وَالْأَنْسَبُ بِمَا سَيَعْقُبُهُ مِنْ قَوْلِهِ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الْأَحْزَاب: ٤] إِلَى آخَرِ أَحْكَامِ التَّبَنِّي، وَالْمُوَافِقُ لِمَا
رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا عَلَى ضَعْفٍ فِيهِ سَنُبَيِّنُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا الْيَهُودَ كَمَا يَقْتَضِيهِ مَا يُرْوَى فِي سَبَبِ النُّزُولِ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى مَا يَعُمُّ نَوْعَيِ الْكَافِرِينَ الْمُجَاهِرِينَ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا.
وَالطَّاعَةُ: الْعَمَلُ عَلَى مَا يَأْمُرُ بِهِ الْغَيْرُ أَوْ يُشِيرُ بِهِ لِأَجْلِ إِجَابَةٍ مَرْغُوبَةٍ. وَمَاهِيَّتُهَا مُتَفَاوِتَةٌ مَقُولٌ عَلَيْهَا بِالتَّشْكِيكِ، وَوُقُوعُ اسْمِهَا فِي سِيَاقِ النَّهْيِ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ كُلِّ مَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ أَدْنَى مَاهِيَّتِهَا، مِثْلَ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ تَزَوُّجِ مُطَلَّقَةِ مَتْبَنَّاهُ لِقَوْلِ الْمُنَافِقِينَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَنْهَى عَنْ تَزَوُّجِ نِسَاءِ الْأَبْنَاءِ وَتَزَوَّجَ زَوْجَ ابْنِهِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي جَاءَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الْأَحْزَاب: ٣٧] ، وَقَوْلُهُ: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ [الْأَحْزَاب: ٤٨] عَقِبَ قَضِيَّةِ امْرَأَةِ زَيْدٍ. وَمِثْلَ نَقْضِ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ جَعْلِ الظِّهَارِ مُوجِبًا مَصِيرَ الْمُظَاهَرَةِ أُمًّا لِلْمُظَاهِرِ حَرَامًا عَلَيْهِ قُرْبَانُهَا أَبَدًا، وَلِذَلِكَ أُرْدِفَتِ الْجُمْلَةُ بِجُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً تَعْلِيلًا لِلنَّهْيِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ حَقِيقٌ بِالطَّاعَةِ لَهُ دُونَ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ فَلَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا فِيهِ الصَّلَاحُ. وَدُخُولُ إِنَّ عَلَى الْجُمْلَةِ قَائِمٌ مَقَامَ فَاءِ التَّعْلِيلِ وَمُغْنٍ غَنَاءَهَا عَلَى مَا بُيِّنَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَشَاهِدُهُ الْمَشْهُورُ قَوْلُ بِشَارٍ:
بَكِّرَا صَاحِبَيَّ قَبْلَ الْهَجِيرِ ... إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحُ فِي التَّبْكِيرِ
وَقَدْ ذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» وَالثَّعْلَبِيُّ وَالْقُشَيْرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي «تَفَاسِيرِهِمْ» : أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ نَزَلَ بِسَبَبِ أَنَّهُ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ جَاءَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَأَبُو الْأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ عَمْرُو بْنُ سُفْيَانَ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَذِنَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَمَانِ فِي الْمَدِينَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute