وَالْقَدَرُ بِفَتْحِ الدَّالِ: إِيجَادُ الْأَشْيَاءِ عَلَى صِفَةٍ مَقْصُودَةٍ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقَدْرِ بِسُكُونِ الدَّالِ وَهُوَ الْكِمِّيَّةُ الْمُحَدَّدَةُ الْمَضْبُوطَةُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [١٧] وَقَوْلِهِ: وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٢١] . وَلَمَّا كَانَ مِنْ لَوَازِمِ هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ مَضْبُوطًا مُحْكَمًا كَثُرَتِ الْكِنَايَةُ بِالْقَدَرِ عَنِ الْإِتْقَانِ وَالصُّدُورِ عَنِ الْعِلْمِ.
وَمِنْهُ حَدِيثُ: «كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ»
، أَيْ مِنَ اللَّهِ.
وَاصْطَلَحَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ: أَنَّ الْقَدَرَ اسْمٌ لِلْإِرَادَةِ الْأَزَلِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَيُطْلِقُونَهُ عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْقَدَرُ وَهُوَ الْمَقْدُورُ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَالْمَعْنَى:
وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مُقَدَّرًا عَلَى حِكْمَةٍ أَرَادَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ، فَاللَّهُ لَمَّا أَمَرَ رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِتَزَوُّجِ زَيْنَبَ الَّتِي فَارَقَهَا زَيْدٌ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ ذَلِكَ لَائِقٌ بِرَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا قَدَّرَ لِأَسْلَافِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ.
وَفِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ جِيءَ بِالْمَوْصُولِ دُونَ اسْمِ الْإِشَارَةِ أَوِ الضَّمِيرِ لِمَا فِي هَذِهِ الصِّلَةِ مِنْ إِيمَاءٍ إِلَى انْتِفَاءِ الْحَرَجِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ فِي تَنَاوُلِ الْمُبَاحِ بِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ مِنْهُمْ تَبْلِيغَ الرِّسَالَةِ وَخَشْيَةَ اللَّهِ بِتَجَنُّبِ مَا نَهَى عَنْهُ وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ إِشْقَاقَ نُفُوسِهِمْ بِتَرْكِ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي يُرِيدُونَهَا، وَلَا حَجْبَ وِجْدَانِهِمْ عَنْ إِدْرَاكِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ حُسْنِ الْحَسَنِ وَقُبْحِ الْقَبِيحِ، وَلَا عَنِ انْصِرَافِ الرَّغْبَةِ إِلَى تَنَاوُلِ مَا حَسُنَ لَدَيْهِمْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي حُدُودِ الْإِبَاحَةِ، وَلَا كلّفهم مُرَاعَاة ميول النَّاسِ وَمُصْطَلَحَاتِهِمْ وَعَوَائِدِهِمُ الرَّاجِعَةِ إِلَى الْحَيْدَةِ بِالْأُمُورِ عَنْ مَنَاهِجِهَا فَإِنَّ فِي تَنَاوُلِهِمْ رَغَبَاتِهِمُ الْمُبَاحَةَ عَوْنًا لَهُمْ عَلَى النَّشَاطِ فِي تَبْلِيغِ رِسَالَاتِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ، أَيْ لَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا خَشْيَةً تَقْتَضِي فِعْلَ شَيْءٍ أَوْ تَرْكَهُ.
ثُمَّ إِنَّ جُمْلَةَ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ إِلَى آخِرِهَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِلَّذِينِ
خَلَوْا مِنْ قَبْلُ، أَيِ الْأَنْبِيَاءِ. وَإِذْ قَدْ علم أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّبِعٌ مَا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ اتِّبَاعَهُ مِنْ سُنَّةِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ عُلِمَ أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِمَضْمُونِ جُمْلَةِ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ بِحُكْمِ قِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْخَشْيَةَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: وَتَخْشَى النَّاسَ [الْأَحْزَاب: ٣٧] لَيْسَتْ خَشْيَةَ خَوْفٍ تُوجِبُ تَرْكَ مَا يَكْرَهُهُ النَّاسُ أَوْ فِعْلَ مَا يَرْغَبُونَهُ بِحَيْثُ يَكُونُ النَّاسُ محتسبين على النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute