مِنْ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى النَّكِرَةِ الْمَنْفِيَّةِ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ، أَيْ فَمَا لَكَمَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جِنْسِ الْعِدَّةِ.
وَالْخِطَابُ فِي لَكُمْ لِلْأَزْوَاجِ الَّذِينَ نَكَحُوا الْمُؤْمِنَاتِ. وَجُعِلَتِ الْعِدَّةُ لَهُمْ، أَيْ لِأَجْلِهِمْ لِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْهَا رَاجِعٌ إِلَى نَفْعِ الْأَزْوَاجِ بِحِفْظِ أَنْسَابِهِمْ وَلِأَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ مُرَاجعَة الْأزْوَاج مَا دمن فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً [الطَّلَاق: ١] . وَقَوْلُهُ: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً [الْبَقَرَة: ٢٢٨] . وَمَعَ ذَلِكَ هِيَ حَقٌّ أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ، فَلَوْ رَامَ الزَّوْجُ إِسْقَاطَ الْعِدَّةِ عَنِ الْمُطَلَّقَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا تَتَضَمَّنُهُ الْعِدَّةُ مِنْ حِفْظِ النَّسَبِ مَقْصِدٌ مِنْ أُصُولِ مَقَاصِدِ التَّشْرِيعِ فَلَا يَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ.
وَمَعْنَى: تَعْتَدُّونَها تَعُدُّونَهَا عَلَيْهِنَّ، أَيْ تَعُدُّونَ أَيَّامَهَا عَلَيْهِنَّ، كَمَا يُقَالُ: اعْتَدَتِ الْمَرْأَةُ، إِذَا قَضَتْ أَيَّامَ عِدَّتِهَا.
فَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ لَيْسَتْ لِلْمُطَاوَعَةِ وَلَكِنَّهَا بِمَعْنَى الْفِعْلِ مَثَلَ: اضْطُرَّ إِلَى كَذَا. وَمُحَاوَلَةُ حَمْلِ صِيغَةِ الْمُطَاوَعَةِ عَلَى مَعْرُوفِ مَعْنَاهَا تَكَلُّفٌ.
وَيُشْبِهُ هَذَا مَنْ رَاجَعَ الْمُعْتَدَّةَ فِي مُدَّةِ عِدَّتِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَإِنَّ الْمُرَاجَعَةَ تُشْبِهُ النِّكَاحَ وَلَيْسَتْ عَيْنُهُ إِذْ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى إِيجَابٍ وَقَبُولٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِدَادِهَا مِنْ ذَلِكَ الطَّلَاقِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّهَا تُنْشِئُ عِدَّةً مُسْتَقْبَلَةً مِنْ يَوْم طَلقهَا بعد الْمُرَاجَعَة وَلَا تَبْنِي عَلَى عِدَّتِهَا الَّتِي كَانَتْ فِيهَا لِأَنَّ الزَّوْجَ نَقَضَ
تِلْكَ الْعِدَّةَ بِالْمُرَاجَعَةِ. وَلَعَلَّ مَالِكًا نَظَرَ إِلَى أَنَّ الْمَسِيسَ بَعْدَ الْمُرَاجَعَةِ قَدْ يَخْفَى أَمْرُهُ بِخِلَافِ الْبِنَاءِ بِالزَّوْجَةِ فِي النِّكَاحِ فَلَعَلَّهُ إِنَّمَا أَوْجَبَ اسْتِئْنَافَ الْعِدَّةِ لِهَذِهِ التُّهْمَةِ احْتِيَاطًا لِلْأَنْسَابِ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ وَأَبُو قِلَابَةَ وَقَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ: تَبْنِي عَلَى عِدَّتِهَا الْأَوْلَى الَّتِي رَاجَعَهَا فِيهَا لِأَنَّ طَلَاقَهُ بَعْدَ الْمُرَاجَعَةِ وَدون أَنْ يَمَسَّهَا بِمَنْزِلَةِ إِرْدَافِ طَلَاقٍ ثَانٍ عَلَى الْمَرْأَةِ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا فَإِنَّ الطَّلَاقَ الْمُرْدَفَ لَا اعْتِدَادَ لَهُ بِخُصُوصِهِ. وَنَسَبَ الْقُرْطُبِيُّ إِلَى دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ إِذَا رَاجَعَهَا زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ثُمَّ فَارَقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تُتِمَّ عِدَّتَهَا وَلَا عِدَّةً مُسْتَقْبَلَةً لِأَنَّهَا مُطْلَقَةٌ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا اهـ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute