الِاسْتِحْيَاءُ
يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الذَّوَاتِ، فَقَوْلُكَ: أَرَدْتُ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا فَاسْتَحَيْتُ مِنْ فُلَانٍ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحَقِيقَةُ هِيَ التَّعْلِيقَ بِذَاتِ فُلَانٍ وَأَنْ تَكُونَ هِيَ التَّعْلِيقَ بِالْأَحْوَالِ الْمُلَابَسَةِ لَهُ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الِاسْتِحْيَاءِ لِأَجْلِ مُلَابَسَتِهَا لَهُ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: اسْتَحْيَيْتُ من أَنْ أَفْعَلَ كَذَا بِمَرْأَى من فُلَانٍ. وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ تَكُونُ مِنَ لِلتَّعْلِيلِ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي تَكُونُ مِنَ لِلِابْتِدَاءِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ «الْكَشَّافِ» يَقْتَضِي أَنَّ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ فُلَانٍ مَجَازٌ أَوْ تَوَسُّعٌ، وَأَنَّ:
اسْتَحْيَيْتُ مِنْ فِعْلِ كَذَا لِأَجْلِ فُلَانٍ هُوَ الْحَقِيقَةُ. وَظَاهِرُ كَلَام صَاحب «الْكَشَّاف» عَكْسُ ذَلِكَ وَالْأَمْرُ هَيِّنٌ.
وصيغ فعل فَيَسْتَحْيِي بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِأَنَّهُ مُفَرَّعٌ عَلَى يُؤْذِي النَّبِيءَ لِيَدُلَّ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمُفَرَّعُ هُوَ عَلَيْهِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَن سكُوت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْفِعْلِ الْوَاقِعِ بِحَضْرَتِهِ إِذَا كَانَ تَعَدِّيًا عَلَى حَقٍّ لِذَاتِهِ لَا يَدُلُّ سُكُوتُهُ فِيهِ عَلَى جَوَازِ الْفِعْلِ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُسَامِحَ فِي حَقِّهِ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ الْحَظْرُ أَوِ الْإِبَاحَةُ فِي مَثَلِهِ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيءَ وَلِذَلِكَ جَزَمَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ من آذَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّرَاحَةِ أَوِ الِالْتِزَامِ يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ بِحَسَبِ مَرْتَبَةِ الْأَذَى وَالْقَصْدِ إِلَيْهِ بَعْدَ تَوْقِيفِهِ عَلَى الْخَفِيِّ مِنْهُ وَعَدَمِ التَّوْبَةِ مِمَّا تُقْبَلُ فِي مِثْلِهِ التَّوْبَةُ مِنْهُ. وَلَمْ يَجْعَلُوا فِي إِعْرَاض النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ مُؤَاخَذَةِ مَنْ آذَاهُ فِي حَيَاتِهِ دَلِيلًا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَسَامُحِ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ حَقِّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَاعْفُ عَنْهُمْ [الْمَائِدَة: ١٣] وَقَوْلِهِ: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمرَان: ١٥٩] . فَهَذَا مِلَاكُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْإِيذَاءِ وَالِاسْتِحْيَاءِ وَالْحَقِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَدَ تَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى الذَّبَّ عَنْ حَقِّ رَسُوله وَكَفاهُ مؤونة الْمَضَضِ الدَّاعِي إِلَيْهِ حَيَاؤُهُ. وَقَدْ حَقَّقَ هَذَا الْمَعْنَى وَمَا يَحْفُ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ عِيَاضٌ فِي تَضَاعِيفِ الْقِسْمِ الرَّابِعِ مِنْ كِتَابِهِ «الشِّفَاءِ» .
فَإِنْ قُلْتَ: وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أنس أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنَ الْبَيْتِ لِيَقُومَ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ قعدوا يتحدثون، فَلَمَّا ذَا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْخُرُوجِ بَدَلًا مِنْ خُرُوجِهِ هُوَ. قُلْتُ: لِأَنَّ خُرُوجَهُ غَيْرُ صَرِيح فِي كَرَاهِيَة جُلُوسَهُمْ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِغَرَضٍ آخَرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِقَصْدِ انْفِضَاضِ الْمَجْلِسِ فَكَانَ مِنْ وَاجِبِ الْأَلْمَعِيَّةِ أَنْ يَخْطُرَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute