بِأَنْ يَحْمِلَ فِيهَا أَهَّلَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ قَوْمِهِ لِبَقَاءِ ذُرِّيَّاتِ الْبَشَرِ فَكَانَ ذَلِكَ حَمْلًا لِذُرِّيَّاتِهِمْ مَا تَسَلْسَلَتْ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
هَذَا هُوَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهِيَ مِنْ أَشْكَلِ مَا فِي السُّورَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «قَدْ خَلَطَ بَعْضُ النَّاسِ حَتَّى قَالُوا: الذُّرِّيَّةُ تُطْلَقُ عَلَى الْآبَاءِ وَهَذَا لَا يُعْرَفُ مِنَ اللُّغَةِ» وَتَقْدَمَ قَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٧٢] .
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ ذُرِّيَّاتِهِمْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِدُونِ أَلْفٍ بِصِيغَةِ اسْمِ الْجَمْعِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَقَدْ فَهُمَ مِنْ دَلَالَةِ قَوْلِهِ: أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّاتِهِمْ صَرِيحًا وَكِنَايَةً أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُسْتَمِرَّةٌ لِكُلِّ نَاظِرٍ إِذْ يَشْهَدُونَ أَسْفَارَهُمْ وَأَسْفَارَ أَمْثَالِهِمْ فِي الْبَحْرِ وَخَاصَّةً سُكَّانَ الشُّطُوطِ وَالسَّوَاحِلِ مَثْلَ أَهْلِ جِدَّةَ وَأَهْلِ يَنْبُعَ إِذْ يُسَافِرُونَ إِلَى بِلَادِ الْيَمَنِ وَبِلَادِ الْحَبَشَةِ فَيُفْهَمُ مِنْهُ: أَنَّا حَمَلْنَا وَنَحْمِلُ وَسَنَحْمِلُ أَسْلَافَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ. وَقَدْ وَصَفَ طَرَفَةُ السُّفُنَ فِي مُعَلَّقَتِهِ.
وَجُمْلَةُ وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ مُعْتَرِضَةٌ فِي خِلَالِ آيَةِ الْبَحْرِ اقْتَضَتْهَا مُرَاعَاةُ النَّظِيرِ تَذْكِيرًا بِنِعْمَةِ خَلْقِ الْإِبِلِ صَالِحَةً لِلْأَسْفَارِ فَحُكِيَتْ آيَةُ الْإِلْهَامِ بِصُنْعِ الْفُلْكِ مِنْ
حَيْثُ الْحِكْمَةُ الْعَظِيمَةُ فِي الْإِلْهَامِ وَتَسْخِيرِ الْبَحْرِ لَهَا وَإِيجَادِهَا فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ لِحِفْظِ النَّوْعِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْتَ فِي جَانِبِهَا بِفِعْلِ الْخَلْقِ الْمُخْتَصِّ بِالْإِيجَادِ دُونَ صُنْعِ النَّاسِ.
وَحُكِيَتْ آيَةُ اتِّخَاذِ الرَّوَاحِلِ بِفِعْلِ خَلَقْنا، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمُقَارنَة قَوْله تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ مَا تَرْكَبُونَ [الزخرف: ١٢] ، فَمَا صدق مَا يَرْكَبُونَ هُنَا هُوَ الرَّوَاحِلُ خَاصَّةً لِأَنَّهَا الَّتِي تُشْبِهُ الْفُلْكَ فِي جَعْلِهَا قَادِرَةً عَلَى قَطْعِ الرِّمَالِ كَمَا جَعَلَ الْفُلْكَ صَالِحًا لِمَخْرِ الْبِحَارِ، وَقَدْ سَمَّتِ الْعَرَبُ الرَّوَاحِلَ سَفَائِنَ الْبَرِّ ومِنْ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: مِنْ مِثْلِهِ بَيَانِيَّةٌ بِتَقْدِيمِ الْبَيَانِ عَلَى الْمُبَيَّنِ وَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْأَصَحِّ، أَوْ مُؤَكِّدَةٌ وَمَجْرُورُهَا أَصْلُهُ حَالٌ مِنْ مَا الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ: مَا يَرْكَبُونَ. وَالْمُرَادُ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْعَظَمَةِ وَقُوَّةِ الْحَمْلِ وَمُدَاوَمَةِ السَّيْرِ وَفِي الشَّكْلِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute