وَجُمْلَةُ وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّاتِهِمْ بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهَا الْكِنَائِيَّةِ عَلَى اسْتِمْرَارِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهَذِهِ الْمِنَّةِ تَذْكِيرًا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى الَّذِي امْتَنَّ عَلَيْهِمْ إِذَا شَاءَ جَعْلَ فِيمَا هُوَ نِعْمَةٌ عَلَى النَّاسِ نِقْمَةً لَهُمْ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا. وَهَذَا جَرْيٌ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ التَّرْغِيبِ بِالتَّرْهِيبِ وَعَكْسِهِ لِئَلَّا يَبْطَرَ النَّاسُ بِالنِّعْمَةِ وَلَا يَيْأَسُوا مِنَ الرَّحْمَةِ. وَقَرِينَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ جِيءَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْمُضَارِعِ الْمُتَمَحِّضِ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ لِكَوْنِهِ مُسْتَقْبَلًا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً [الْإِسْرَاء: ٦٨- ٦٩] .
وَالصَّرِيخُ: الصَّارِخُ وَهُوَ الْمُسْتَغِيثُ الْمُسْتَنْجِدُ تَقُولُ الْعَرَبُ: جَاءَهُمُ الصَّرِيخُ، أَيِ الْمَنْكُوبُ الْمُسْتَنْجِدُ لِيُنْقِذُوهُ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ. وَيُطْلَقُ الصَّرِيخُ عَلَى الْمُغِيثِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنْجِدَ إِذَا صَرَخَ بِهِ الْمُسْتَنْجِدُ صَرَخَ هُوَ مُجِيبًا بِمَا يَطْمَئِنُّ لَهُ مِنَ النَّصْرِ. وَقَدْ جَمَعَ الْمَعْنَيَيْنِ قَوْلُ سَلَامَةَ بْنِ جَنْدَلٍ أَنْشَدَهُ الْمُبَرِّدُ فِي «الْكَامِلِ» :
إِنَّا إِذَا أَتَانَا صَارِخٌ فَزِعٌ ... كَانَ الصُّرَاخُ لَهُ قَرْعَ الظَّنَابِيبِ
وَالظَّنَابِيبُ: جَمْعُ ظُنْبُوبٍ وَهُوَ مِسْمَارٌ يَكُونُ فِي جُبَّةِ السِّنَانِ. وَقَرَعَ الظَّنَابِيبَ تَفَقَّدَ الْأَسِنَّةَ اسْتِعْدَادًا لِلْخُرُوجِ.
وَالْمَعْنَى: لَا يَجِدُونَ مَنْ يَسْتَصْرِخُونَ بِهِ وَهُمْ فِي لُجُجِ الْبَحْرِ وَلَا يُنْقِذُهُمْ أَحَدٌ مِنَ الْغَرَقِ.
وَالْإِنْقَاذُ: الِانْتِشَالُ مِنَ الْمَاءِ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ لِإِفَادَةٍ تُقَوِّي الْحُكْمَ وَهُوَ نَفْيُ إِنْقَاذِ أَحَدٍ إِيَّاهُمْ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا رَحْمَةً مُنْقَطِعٌ فَإِنَّ الرَّحْمَةَ لَيْسَتْ مِنَ الصَّرِيخِ وَلَا مِنَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute