فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَاتِ آيَاتُ الْقُرْآنِ، فَإِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْقُرْآنِ لَهُ أَحْوَالٌ شَتَّى: بَعْضُهَا بِعَدَمِ الِامْتِثَالِ لِمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَعَ الِاسْتِهْزَاءِ بِالْمُسْلِمِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [يس: ٤٧] الْآيَةَ، وَبَعْضُهَا بِالتَّكْذِيبِ لِمَا يُنْذِرُهُمْ بِهِ مِنَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يس: ٤٨] . وَمِنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ طَعْنُهُمْ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ بِأَقْوَالٍ شَتَّى مِنْهَا قَوْلُهُمْ:
هُوَ قَوْلُ شَاعِرٍ، فَلَمَّا تَصَدَّى الْقُرْآنُ لِإِبْطَالِ تَكْذِيبِهِمْ بِوَعِيدٍ بِالْجَزَاءِ يَوْمَ الْحَشْرِ بِمَا تَعَاقَبَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ عَادَ هُنَا إِلَى طَعْنِهِمْ فِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِمْ: بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ [الْأَنْبِيَاء: ٥] ، فَقَوْلهم بَلْ هُوَ شاعِرٌ يَقْتَضِي لَا مَحَالَةَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ شِعْرٌ.
فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْأَنْبِيَاء: ٣٨] ، عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ وَالْغَرَضِ عَلَى الْغَرَضِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا وَيَكُونُ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ، وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ هُنَا عَلَى تَنْزِيهِ الْقُرْآنِ عَنْ أَنْ يَكُونَ شِعْرًا وَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يَكُونَ شَاعِرًا دون التَّعَرُّض لتنزيهه عَنْ أَنْ يَكُونَ سَاحِرًا، أَوْ أَنْ يَكُونَ مَجْنُونًا لِأَنَّ الْغَرَضَ الرَّدُّ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْقُرْآنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ إِبْطَالَ مَقَالَاتٍ لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الحاقة: ٤١، ٤٢] .
وَضَمِيرُ عَلَّمْناهُ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنْ مَقَامِ الرَّدِّ وَلَيْسَ عَائِدًا إِلَى مَذْكُورٍ إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ مُعَادٌ.
وَبُنِيَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ بِنَفْيِ تَعْلِيمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّعْرَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِفَادَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُعَلَّمٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَيْسَ بِشِعْرٍ وَأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ
بِشَاعِرٍ. وَانْتَصَبَ الشِّعْرَ على أَن مَفْعُولٌ ثَانٍ لِفِعْلِ عَلَّمْناهُ، وَهَذَا الْفِعْلُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِلْمِ، وَمُجَرَّدُهُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ غَالِبًا نَحْوُ عَلِمَ الْمَسْأَلَةَ. وَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ أَصْلُهُمَا الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ. فَإِذَا دَخَلَهُ التَّضْعِيفُ صَارَ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولَيْنِ فَقَطِ اعْتِدَادًا بِأَنَّ مَجْرَدَهُ مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [الْمَائِدَة: ١١٠] فِي سُورَةِ الْعُقُودِ، وَقَوْلِهِ: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ يس
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute