وَهَذِهِ تَفْرِقَةٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ موكولة إِلَى اخْتِيَار أَهْلِ اللِّسَانِ نَبَّهَ عَلَيْهِ الرَّضِيُّ فِي «شَرْحِ الْكَافِيَةِ» فِي بَابِ تَعْدِيَةِ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ بِأَنَّ أَصْلَهُ مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ. فَتَقْدِيرُ الْمَعْنَى: نَحْنُ عَلَّمْنَاهُ الْقُرْآنَ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ، فَالْقُرْآنُ مُوحًى إِلَيْهِ بِتَعْلِيمٍ مِنَ اللَّهِ وَالَّذِي أَوْحَى بِهِ إِلَيْهِ لَيْسَ بِشِعْرٍ، وَإِذَنْ فَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ مِنَ الشِّعْرِ فِي شَيْءٍ، فَكَانَتْ هَاتِهِ الْجُمْلَةُ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِمْ: هُوَ شَاعِرٌ عَلَى طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّهَا انْتِقَالٌ مِنَ اللَّازِمِ إِلَى الْمَلْزُومِ.
وَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ قَوْلُهُ عَقِبَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ، أَيْ لَيْسَ الَّذِي عَلَّمْنَاهُ إِيَّاهُ إِلَّا ذِكْرًا وَقُرْآنًا وَمَا هُوَ بِشِعْرٍ. وَالتَّعْلِيمُ هُنَا بِمَعْنَى الْوَحْيِ، أَيْ وَمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ الشَّعْرَ فَقَدْ أُطْلِقَ التَّعْلِيمُ عَلَى الْوَحْيِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النَّجْم: ٤، ٥] وَقَالَ: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
[النِّسَاء: ١١٣] .
وَكَيْفَ يَكُونُ الْقُرْآنُ شِعْرًا وَالشِّعْرُ كَلَامٌ مَوْزُونٌ مُقَفًّى لَهُ مَعَانٍ مُنَاسِبَةٌ لِأَغْرَاضِهِ الَّتِي أَكْثَرَهَا هَزْلٌ وَفُكَاهَةٌ، فَأَيْنَ الْوَزْنُ فِي الْقُرْآنِ، وَأَيْنَ التَّقْفِيَةُ، وَأَيْنَ الْمَعَانِي الَّتِي ينتجها الشُّعَرَاء، وَأَيْنَ نَظْمُ كَلَامِهِمْ مِنْ نَظْمِهِ، وَأَسَالِيبُهُمْ مِنْ أَسَالِيبِهِ. وَمِنَ الْعَجِيبِ فِي الْوَقَاحَةِ أَنْ يَصْدُرَ عَنْ أَهْلِ اللِّسَانِ وَالْبَلَاغَةِ قَوْلٌ مِثْلُ هَذَا وَلَا شُبْهَةَ لَهُمْ فِيهِ بِحَالٍ، فَمَا قَوْلُهُمْ ذَلِكَ إِلَّا بُهْتَانٌ.
وَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ أُسْلُوبُ الْقُرْآنِ مِنْ تَسَاوِي الْفَوَاصِلِ لَا يَجْعَلُهَا مُوَازِيَةً لِلْقَوَافِي كَمَا يَعْلَمُهُ أَهْلُ الصِّنَاعَةِ مِنْهُمْ وَكُلُّ مَنْ زَاوَلَ مَبَادِئَ الْقَافِيَةِ مِنَ الْمُوَلَّدِينَ، وَلَا أَحْسَبُهُمْ دَعَوْهُ شِعْرًا إِلَّا تَعَجُّلًا فِي الْإِبْطَالِ، أَوْ تَمْوِيهًا عَلَى الْإِغْفَالِ، فَأَشَاعُوا فِي الْعَرَبِ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاعِرٌ، وَأَنَّ كَلَامَهُ شِعْرٌ. وَيَنْبَنِي عَنْ هَذَا الظَّنِّ خَبَرُ أُنَيْسِ بْنِ جُنَادَةَ الْغِفَارِيِّ أَخِي أَبِي ذَرٍّ، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ قَالَا: «قَالَ أَبُو ذَرٍّ لِأَخِيهِ: ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِي فَاعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يزْعم أَنه نَبِي يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ وَاسْتَمِعْ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ ائْتِنِي، فَانْطَلَقَ الْأَخُ حَتَّى قَدِمَ
وَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَبِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute