للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَلَيْسَتِ الْكَافُ بِزَائِدَةٍ وَلَا هِيَ لِلتَّشْبِيهِ وَلَكِنَّهَا قَرِيبَةٌ مِنَ الزَّائِدَةِ، وَالْإِشَارَةُ حِينَئِذٍ إِلَى مَا سَيُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ.

وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» أَظْهَرُ فِي هَذَا الْمَحْمَلِ فَيَدُلُّ على ذَلِك تصريحه فِي نَظَائِرِهِ إِذْ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاء: ٥٩] الْكَافُ مَنْصُوبَةٌ عَلَى مَعْنَى مِثْلِ أَيْ مِثْلِ ذَلِكَ الْإِخْرَاجِ أَخْرَجْنَاهُمْ وَأَوْرَثْنَاهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي حَدَا صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» إِلَى هَذَا الْمَحْمَلِ أَنَّ اسْتِعْمَالَ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ لَا يَطَّرِدُ فِيهِ اعْتِبَارُ مُشَارٍ إِلَيْهِ مِمَّا سَبَقَ مِنَ الْكَلَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَّجِهُ اعْتِبَارُ مُشَارٍ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي آيَةِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ وَلَكِنَّ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» قَدْ خَالَفَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١١٢] وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا فَقَالَ: «كَمَا خَلَّيْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَعْدَائِكَ كَذَلِكَ فَعَلْنَا بِمَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَعْدَائِهِمْ» اهـ وَمَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْزَعٌ حَسَنٌ لَكِنَّهُ لَمْ يَضْرِبِ النَّاظِرُونَ فِيهِ بِعَطَنٍ.

وَالتَّحْقِيقُ عِنْدِي أَنَّ أَصْلَ: كَذلِكَ أَنْ يَدُلَّ عَلَى تَشْبِيهِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ وَالْمُشَبَّهُ بِهِ ظَاهِرٌ مُشَارٌ إِلَيْهِ أَوْ كَالظَّاهِرِ ادِّعَاءً، فَقَدْ يَكُونُ الْمُشَبَّهُ بِهِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ مَذْكُورًا مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ [هود: ١٠٢] إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [هود: ١٠١] الْآيَةَ. وَكَقَوْلِ النَّابِغَةِ:

فَأَلْفَيْتُ الْأَمَانَةَ لَمْ تَخُنْهَا ... كَذَلِكَ كَانَ نُوحٌ لَا يَخُونُ

وَقَدْ يَكُونُ الْمُشَبَّهُ بِهِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ مَفْهُومًا مِنَ السِّيَاقِ فَيُحْتَمَلُ اعْتِبَارُ التَّشْبِيهِ وَيُحْتَمَلُ اعْتِبَارُ الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ كَقَوْلِ أَبِي تَمَامٍ:

كَذَا فَلْيَجِلَّ الْخَطْبُ وَلْيَفْدَحِ الْأَمْرُ ... فَلَيْسَ لِعَيْنٍ لَمْ يَفِضْ دَمْعُهَا عُذْرُ

قَالَ التِّبْرِيزِيُّ فِي «شَرْحِهِ» (١) الْإِشَارَةُ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ وَهُوَ فِي صَدْرِ الْقَصِيدَةِ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ مَا يُشَبَّهُ بِهِ فَقُطِعَ النَّظَرُ فِيهِ عَنِ التَّشْبِيهِ وَاسْتُعْمِلَ فِي لَازِمِ مَعْنَى التَّشْبِيهِ اهـ، يَعْنِي أَنَّ الشَّاعِرَ أَشَارَ إِلَى الْحَادِثِ الْعَظِيمِ وَهُوَ مَوْتُ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ الطُّوسِيِّ، وَمِثْلُهُ قَول الْأَسدي من شُعَرَاءِ «الْحَمَاسَةِ» يَرْثِي أَخَاهُ (٢) :

فَهَكَذَا يَذْهَبُ الزَّمَانُ وَيَفْ ... نَى الْعِلْمُ فِيهِ وَيَدْرُسُ الْأَثَرُُُ


(١) من كتب التبريزي: شرح ديوَان الحماسة لأبي تَمام، ٢ شرح الْمُشكل من ديوَان أبي تَمام.
والتبريزي: هُوَ يحيى بن عَليّ مُحَمَّد الشَّيْبَانِيّ التبريزي، أَبُو زَكَرِيَّا، من أَئِمَّة اللُّغَة وَالْأَدب. توفّي سنة ٥٠٢ هـ. «الْأَعْلَام» (٨/ ١٥٧) .
(٢) وَقيل الْبَيْت لِابْنِ كناسَة فِي رثاء حَمَّاد الراوية، وَقَالَ الجاحظ هُوَ لبَعض الشُّعَرَاء فِي رثاء بعض الْعلمَاء.