للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً عَلَى مَا فَسَّرَ بِهِ الْبَيْضَاوِيُّ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.

وَقَدْ يَكُونُ مُرَادًا مِنْهُ التنويه بالْخبر فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ مِمَّا يَرُومُ الْمُتَكَلِّمُ تَشْبِيهَهُ ثُمَّ لَا يَجِدُ إِلَّا أَنْ يُشَبِّهَهُ بِنَفْسِهِ وَفِي هَذَا قَطْعٌ لِلنَّظَرِ عَنِ التَّشْبِيهِ فِي الْوَاقِعِ وَمِثْلُهُ قَوْلُ أَحَدِ شُعَرَاءِ فَزَارَةَ فِي الْأَدَبِ من «الحماسة» :

كَذَلِك أُدِّبْتُ حَتَّى صَارَ مِنْ خُلُقِي ... أَنِّي رَأَيْتُ مِلَاكَ الشِّيمَةِ الْأَدَبَا

أَيْ أُدِّبْتُ هَذَا الْأَدَبَ الْكَامِنَ الْعَجِيبَ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:

كَذَلِكَ خِيمُهُمْ وَلِكُلِّ قَوْمٍ ... إِذَا مَسَّتْهُمُ الضَّرَّاءُ خِيمُ

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ عِنْدَ شُرَّاحِ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ الْحَقُّ، وَأَوْضَحُ مِنْهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [الْأَنْعَام:

٥٣] فَإِنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ ذِكْرُ شَيْءٍ غَيْرِ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِتْنَةً أَخْذًا مِنْ فِعْلِ فَتَنَّا. وَالْإِشَارَةُ عَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامٍ مُتَأَخِّرٍ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا علمت آنِفا لِأَنَّهُ الْجعل الْمَأْخُوذِ مِنْ جَعَلْناكُمْ، وَتَأْخِيرُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ عَنِ الْإِشَارَةِ اسْتِعْمَالٌ بَلِيغٌ فِي مَقَامِ التَّشْوِيقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الْكَهْف: ٧٨] أَوْ مِنْ كَلَامٍ مُتَقَدِّمٍ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا لِلْبَيْضَاوِيِّ إِذْ جَعَلَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُوَ الْهَدْيَ الْمَأْخُوذَةَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:

يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَة: ١٤٢] وَلَعَلَّهُ رَأَى لُزُومَ تَقَدُّمِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ.

وَالْوَسَطُ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْوَاقِعِ بَيْنَ أَمْكِنَةٍ تُحِيطُ بِهِ أَوْ لِلشَّيْءِ الْوَاقِعِ بَيْنَ أَشْيَاءَ مُحِيطَةٍ بِهِ لَيْسَ هُوَ إِلَى بَعْضِهَا أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى بَعْضٍ عُرْفًا وَلَمَّا كَانَ الْوُصُولُ إِلَيْهِ لَا يَقَعُ إِلَّا بَعْدَ اخْتِرَاقِ مَا يُحِيطُ بِهِ أَخَذَ فِيهِ مَعْنَى الصِّيَانَةِ وَالْعِزَّةِ طَبْعًا كَوَسَطِ الْوَادِي لَا تَصِلُ إِلَيْهِ الرُّعَاةُ وَالدَّوَابُّ إِلَّا بَعْدَ أَكْلِ مَا فِي الْجَوَانِبِ فَيَبْقَى كَثِيرُ الْعُشْبِ وَالْكَلَأِ، وَوَضْعًا كَوَسَطِ الْمَمْلَكَةِ يُجْعَلُ مَحَلَّ قَاعِدَتِهَا وَوَسَطُ الْمَدِينَةِ يُجْعَلُ مَوْضِعَ قَصَبَتِهَا لِأَنَّ الْمَكَانَ الْوَسَطَ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْعَدُوَّ بِسُهُولَةٍ، وَكَوَاسِطَةِ الْعِقْدِ لِأَنْفَسِ لُؤْلُؤَةٍ فِيهِ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ صَارَ مَعْنَى النَّفَاسَةِ وَالْعِزَّةِ وَالْخِيَارِ مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَى الْوَسَطِ عُرْفًا فَأَطْلَقُوهُ عَلَى الْخِيَارِ النَّفِيسِ كِنَايَةً قَالَ زُهَيْرٌ:

هُمُ وَسَطٌ يَرْضَى الْأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ ... إِذَا نَزَلَتْ إِحْدَى اللَّيَالِي بِمُعْضِلِ

وَقَالَ تَعَالَى: قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ [الْقَلَم: ٢٨] .

وَيُقَالُ أَوْسَطُ الْقَبِيلَةِ لِصَمِيمِهَا.

وَأَمَّا إِطْلَاقُ الْوَسَطِ عَلَى الصِّفَةِ الْوَاقِعَةِ عَدْلًا بَيْنَ خُلُقَيْنِ