وَتَصَدِّي الْقُرْآنِ لِوَصْفِهَا الْمُفَصَّلِ هُنَا يَقْتَضِي أَنَّهَا لَيْسَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَهُمْ فَذَكَرَهَا مُجْمَلَةً فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ فَلَمَّا قَالُوا مَا قَالُوا فصّل أَو صافها هُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَفِي سُورَةِ الدُّخَانِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ تغلي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدُّخان: ٤٣- ٤٦] .
وَقَدْ سَمَّاهَا الْقُرْآنُ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ كَأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الزُّقْمَةِ بِضَمِّ الزَّاءِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَهُوَ اسْمُ الطَّاعُونِ، وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: لَمْ يَكُنِ الزَّقُّومُ اشْتِقَاقًا مِنَ التَّزَقُّمِ وَهُوَ الْإِفْرَاطُ فِي الْأَكْلِ حَتَّى يَكْرَهَهُ. وَهُوَ يُرِيدُ الرَّدَّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّزَقُّمِ وَهُوَ الْبَلْعُ عَلَى جَهْدٍ لِكَرَاهَةِ الشَّيْءِ. وَاسْتَأْنَفَ وَصْفَهَا بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ، أَيْ عَذَابًا مِثْلَ مَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [البروج: ١٠] ، أَيْ عَذَّبُوهُمْ بِأُخْدُودِ النَّارِ.
وَفُسِّرَتِ الْفِتْنَةُ أَيْضًا بِأَنَّ خَبَرَ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ كَانَ فِتْنَةً لِلْمُشْرِكِينَ إِذْ أَغْرَاهُمْ بِالتَّكْذِيبِ وَالتَّهَكُّمِ فَيَكُونُ مَعْنَى جَعَلْناها جَعَلْنَا ذِكْرَهَا وَخَبَرَهَا، أَيْ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ، أَيْ جَعْلَنَا ذِكْرَهَا مُثِيرًا لِفِتْنَتِهِمْ بِالتَّكْذِيبِ وَالتَّهَكُّمِ دُونَ تَفَهُّمٍ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [المدثر: ٣١] ، فَإِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ جَهَنَّمَ: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: ٣٠] قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِقُرَيْشٍ:
ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ إِنَّ ابْنَ أَبِي كَبْشَةَ يُخْبِرُكُمْ أَنَّ خَزَنَةَ النَّارِ تِسْعَةَ عَشَرَ وَأَنْتُمُ الدُّهْمُ أَيَعْجَزُ كُلُّ
عَشَرَةٍ مِنْكُمْ أَنْ يَبْطِشُوا بِرَجُلٍ مِنْهُمْ (أَيْ مِنْ خَزَنَةِ النَّارِ) فَقَالَ أَبُو الأشد الجُمَحِي: أَنَا أَكْفِيكُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ فَاكْفُونِي أَنْتُمُ اثْنَيْنِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً [المدثر: ٣١] أَيْ فَلَيْسَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ كَوَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [المدثر: ٣١] .
وَاسْتَأْنَفَ لِوَصْفِهَا استئنافا ثَانِيًا مكررا فِيهِ كَلِمَةَ إِنَّها لِلتَّهْوِيلِ. وَمَعْنَى تَخْرُجُ تَنْبُتُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الْأَعْرَاف: ٥٨] . وَمِنْ عَجِيبِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ جَعَلَ مِنَ النَّارِ شَجَرَةً وَهِيَ نَارِيَّةٌ لَا مَحَالَةَ. صَوَّرَ اللَّهُ فِي النَّارِ شَجَرَةً مِنَ النَّارِ، وَتَقْرِيبُ ذَلِكَ مَا يُصَوَّرُ فِي الشَّمَارِيخِ النَّارِيَّةِ مِنْ صُوَرٍ ذَاتِ أَلْوَانٍ كَالنَّخِيلِ وَنَحْوِهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute