وَقَدْ أُنْذِرُوا بِأَنَّهُمْ آكِلُونَ مِنْهَا إِنْذَارًا مُؤَكَّدًا، أَيْ آكِلُونَ مِنْ ثَمَرِهَا وَهُوَ ذَلِكَ الطَّلْعُ.
وَضَمِيرُ مِنْها لِلشَّجَرَةِ جَرَى عَلَى الشَّائِعِ مِنْ قَوْلِ النَّاسِ أَكَلْتُ مِنَ النَّخْلَةِ، أَيْ مِنْ ثَمَرِهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ آكِلُونَ مِنْهَا كُرْهًا وَذَلِكَ مِنَ الْعَذَابِ، وَإِذَا كَانَ الْمَأْكُولُ كَرِيهًا يَزِيدُهُ كَرَاهَةً سُوءُ مَنْظَرِهِ، كَمَا أَنَّ الْمُشْتَهَى إِذَا كَانَ حَسَنَ الْمَنْظَرِ كَانَ الْإِقْبَالُ عَلَيْهِ بِشَرَهٍ لِظُهُورِ الْفَرْقِ بَيْنَ تَنَاوُلِ تُفَّاحَةٍ صَفْرَاءَ وَتَنَاوُلِ تُفَّاحَةٍ مُوَرَّدَةِ اللَّوْنِ، وَكَذَلِكَ مُحَسَّنَاتُ الشَّرَابِ، أَلَا تَرَى إِلَى كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ كَيْفَ أَطَالَ فِي مُحَسَّنَاتِ الْمَاءِ الَّذِي مُزِجَتْ بِهِ الْخَمْرُ فِي قَوْلِهِ:
شُجَّتْ بِذِي شَبَمٍ مِنْ مَاءِ مَجْنِيَةٍ ... صَافٍ بِأَبْطَحَ أَضْحَى وَهُوَ مَشْمُولُ
تَنْفِي الرِّيَاحُ الْقَذَى عَنْهُ وَأَفْرَطُهُ ... مِنْ صَوْبِ سَارِيَةٍ بَيْضٌ يَعَالِيلُ
وَمَلْءُ الْبُطُونِ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةِ مَا يَأْكُلُونَ مِنْهَا عَلَى كَرَاهَتِهَا. وَإِسْنَادُ الْأَكْلِ وَمَلْءِ الْبُطُونِ إِلَيْهِمْ إِسْنَادٌ حَقِيقِيٌّ وَإِنْ كَانُوا مُكْرَهِينَ عَلَى ذَلِكَ الْأَكْلِ وَالْمَلْءِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْله:
فَمالِؤُنَ فَاءُ التَّفْرِيعِ، وَفِيهَا مَعْنَى التَّعْقِيبِ، أَيْ لَا يلبثُونَ أَن تمتلىء بُطُونُهُمْ مِنْ سُرْعَةِ الِالْتِقَامِ، وَذَلِكَ تَصْوِيرٌ لِكَرَاهَتِهَا فَإِنَّ الطَّعَامَ الْكَرِيهَ كَالدَّوَاءِ إِذَا تَنَاوَلَهُ آكِلُهُ أَسْرَعَ بِبَلْعِهِ وَأَعْظَمَ لَقْمَهُ لِئَلَّا يَسْتَقِرَّ طَعْمُهُ عَلَى آلَةِ الذَّوْقِ.
وثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ لِأَنَّهَا عَطَفَتْ جُمْلَةً، وَلَيْسَ لِلتَّرَاخِي فِي الْإِخْبَارِ مَعْنًى إِلَّا إِفَادَةَ أَنَّ مَا بَعْدَ حَرْفِ التَّرَاخِي أَهَمُّ أَوْ أَعْجَبُ مِمَّا قَبْلَهُ بِحَيْثُ لَمْ يَكُنِ السَّامِعُ يَرْقُبُهُ فَهُوَ أَعْلَى رُتْبَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ زِيَادَةٌ فِي الْعَذَابِ عَلَى الَّذِي سَبَقَهُ فَوَقْعُهُ أَشَدُّ مِنْهُ، وَقَدْ أَشْعَرَ بِذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْها، أَيْ بَعْدَهَا أَيْ بَعْدَ أَكْلِهِمْ مِنْهَا.
وَالشَّوْبُ: أَصْلُهُ مَصْدَرٌ شَابَ الشَّيءَ بِالشَّيءِ إِذَا خَلَطَهُ بِهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّيءِ الْمَشُوبِ بِهِ إِطْلَاقًا لِلْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ. وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُحْتَمَلٌ
هُنَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute