للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَثْبَتَ لِمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ قُلْنَا إِنَّ هَذَا الْمَجْمُوعَ لَا يَقَعُ فِي الضَّلَالِ لَا عَمْدًا وَلَا خَطَأً، أَمَّا التَّعَمُّدُ فَلِأَنَّهُ يُنَافِي الْعَدَالَةَ وَأَمَّا الْخَطَأُ فَلِأَنَّهُ يُنَافِي الْخِلْقَةَ عَلَى اسْتِقَامَةِ الرَّأْيِ فَإِذَا جَازَ الْخَطَأُ عَلَى آحَادِهِمْ لَا يَجُوزُ تَوَارُدُ جَمِيعِ عُلَمَائِهِمْ عَلَى الْخَطَأِ نَظَرًا، وَقَدْ وَقَعَ الْأَمْرَانِ لِلْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فَأَجْمَعُوا عَلَى الْخَطَأِ مُتَابَعَةً لِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِأَنَّ شَرَائِعَهُمْ لَمْ تُحَذِّرْهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لِأَنَّهُمْ أَسَاءُوا تَأْوِيلَهَا، ثُمَّ إِنَّ الْعَامَّةَ تَأْخُذُ نَصِيبًا مِنْ هَذِهِ الْعِصْمَةِ فِيمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهَا وَهُوَ الْجُزْءُ النَّقْلِيُّ فَقَطْ وَبِهَذَا يَنْتَظِمُ الِاسْتِدْلَالُ.

وَقَوْلُهُ: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عِلَّةٌ لِجَعْلِهِمْ وَسَطًا فَإِنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّهَا مَنُوطَةٌ بِحِكَمٍ وَغَايَاتٍ لِعِلْمِهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ وَذَلِكَ عَنْ إِرَادَةٍ وَاخْتِيَارٍ لَا كَصُدُورِ الْمَعْلُولِ عَنِ الْعِلَّةِ كَمَا يَقُولُ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ، وَلَا بِوُجُوبٍ وَإِلْجَاءٍ كَمَا تُوهِمُهُ عِبَارَاتُ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُمْ

مِنْهَا خَيْرًا فَإِنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ لِذَاتِهِ تَعَالَى لِكَمَالِ حِكْمَتِهِ.

وَ (النَّاسُ) عَامٌّ وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْأُمَمُ الْمَاضُونَ وَالْحَاضِرُونَ وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ دُنْيَوِيَّةٌ وَأُخْرَوِيَّةٌ. فَأَمَّا الدُّنْيَوِيَّةُ فَهِيَ حُكْمُ هَاتِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الْأُمَمِ الْمَاضِينَ وَالْحَاضِرِينَ بِتَبْرِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ بِالرُّسُلِ الْمَبْعُوثِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَبِتَضْلِيلِ الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ بِرُسُلِهِمْ وَالْمُكَابِرِينَ فِي الْعُكُوفِ عَلَى مِلَلِهِمْ بَعْدَ مَجِيءِ نَاسِخِهَا وَظُهُورِ الْحَقِّ، وَهَذَا حُكْمٌ تَارِيخِيٌّ ديني عَلَيْهِ إِذَا نَشَأَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ نَشَأَتْ عَلَى تَعَوُّدِ عَرْضِ الْحَوَادِثِ كُلِّهَا عَلَى مِعْيَارِ النَّقْدِ الْمُصِيبِ.

وَالشَّهَادَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ هِيَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (١)

وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يُجَاءُ بِنُوحٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ هَلْ بَلَّغْتُ فَيَقُولُ نَعَمْ يَا رَبِّ فَتُسْأَلُ أُمَّتُهُ هَلْ بَلَّغَكُمْ فَيَقُولُونَ مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ فَيَقُولُ اللَّهُ مَنْ شُهُودُكَ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ فَيُجَاءُ بِكُمْ فَتَشْهَدُونَ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً قَالَ عَدْلًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً

اه. فَقَوْلُهُ «ثُمَّ قَرَأَ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ مِنْ جُمْلَةِ مَعْنَى الْآيَةِ لَا أَنَّهَا عَيْنُ مَعْنَى الْآيَةِ، وَالظَّاهِرُ مِنَ التَّعْلِيلِ هُوَ الشَّهَادَةُ الْأُولَى لِأَنَّهَا الْمُتَفَرِّعَةُ عَنْ جَعَلْنَا أُمَّةً وَسَطًا، وَأَمَّا مَجِيءُ شَهَادَةِ الْآخِرَةِ عَلَى طِبْقِهَا فَذَلِكَ لِمَا عَرَفْنَاهُ مِنْ أَنَّ أَحْوَالَ الْآخِرَةِ تَكُونُ عَلَى وَفْقِ أَحْوَالِ الدُّنْيَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى، قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ

[طه: ١٢٤- ١٢٦] .


(١) انْظُر «فتح الْبَارِي» (١٣/ ٣١٦) . كتاب الِاعْتِصَام (١٩) بَاب وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً.