وَمِنْ مُكَمِّلَاتِ مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وُجُوبُ دَعْوَتِنَا الْأُمَمَ لِلْإِسْلَامِ، لِيَقُومَ ذَلِكَ مَقَامَ دَعْوَةِ الرَّسُولِ إِيَّاهُمْ حَتَّى تَتِمَّ الشَّهَادَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ عَلَى الْمُعْرِضِينَ.
وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْأُمَمِ تَكُونُ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُ اكْتَفَى فِي الْآيَةِ بِتَعْدِيَتِهَا بِعَلَى إِشَارَةً إِلَى أَنَّ مُعْظَمَ شَهَادَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَهَمُّهَا شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُعْرِضِينَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ شَهِدَ لَهُمْ إِيمَانُهُمْ فَالِاكْتِفَاءُ بِعَلَى تَحْذِيرٌ لِلْأُمَمِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا بِحَيْثُ يُشْهَدُ عَلَيْهِمْ وَتَنْوِيهٌ بِالْمُسْلِمِينَ بِحَالَةِ سَلَامَتِهِمْ مِنْ وَصْمَةِ أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ يُشْهَدُ عَلَيْهِمْ وَبِحَالَةِ تَشْرِيفِهِمْ بِهَاتِهِ الْمَنْقَبَةِ وَهِيَ إِثْقَافُ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ بِمُوجِبِ شَهَادَتِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً مَعْطُوفٌ عَلَى الْعِلَّةِ وَلَيْسَ عِلَّةً ثَانِيَةً لِأَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ بَلْ هُوَ تَكْمِيلٌ لِلشَّهَادَةِ الْأُولَى لِأَنَّ جَعْلَنَا وَسَطًا يُنَاسِبُهُ عَدَمُ الِاحْتِيَاجِ إِلَى
الشَّهَادَةِ لَنَا وَانْتِفَاءُ الشَّهَادَةِ عَلَيْنَا، فَأَمَّا الدُّنْيَوِيَّةُ فَشَهَادَةُ الرَّسُولِ عَلَيْنَا فِيهَا هِيَ شَهَادَتُهُ بِذَاتِهِ عَلَى مُعَاصِرِيهِ وَشَهَادَةُ شَرْعِهِ عَلَى الَّذِينَ أَتَوا بعده إِنَّمَا بِوَفَائِهِمْ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ شَرْعُهُ وَإِمَّا بِعَكْسِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْأُخْرَوِيَّةُ فَهِيَ مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ شَهَادَةِ الرَّسُولِ بِصِدْقِ الْأُمَّةِ فِيمَا شَهِدَتْ بِهِ، وَمَا
رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي «الْمُوَطَّأ» و «الصِّحَاح» : «فَلَيُذَادَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ حَوْضِي فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي فَيُقَالُ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ إِنَّهُمْ بَدَّلُوا وَغَيَّرُوا فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي»
. وَتَعْدِيَةُ شَهَادَةِ الرَّسُولِ عَلَى الْأُمَّةِ بِحَرْفِ عَلَى مُشَاكَلَةً لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَإِلَّا فَإِنَّهَا شَهَادَةٌ لِلْأُمَّةِ وَقِيلَ بَلْ لِتَضْمِينِ شَهِيداً مَعْنَى رَقِيبًا وَمُهَيْمِنًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» .
وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى التَّنْوِيهِ بِالشَّهَادَةِ وَتَشْرِيفِهَا حَتَّى أَظْهَرَ الْعَلِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ أَنَّهُ لَا يَقْضِي إلّا بعد حصطولها. وَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الشَّاهِدَ شَهِيدٌ بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْعِلْمِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى الْعِلْمِ بِالسَّمَاعِ وَالْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ وَإِنْ لم ير بِعَيْنِه أَوْ يَسْمَعْ بِأُذُنَيْهِ، وَأَنَّ التَّزْكِيَةَ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الشَّهَادَةِ، وَأَنَّ الْمُزَكِّيَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ وَأَعْدَلَ مِنَ الْمُزَكَّى، وَأَنَّ الْمُزَكَّى لَا يَحْتَاجُ لِلتَّزْكِيَةِ، وَأَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَشْهَدُ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا
كَانَ يَقُولُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَلَاَ هَلْ بَلَّغْتُ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ اللَّهُمَّ اشْهَدْ»
فَجَعَلَ اللَّهَ هُوَ الشَّاهِدَ عَلَى تَبْلِيغِهِ وَهَذَا مِنْ أَدَقِّ النُّكَتِ.
وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ لَا أُرَاهُ إِلَّا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ