الْقَادِرِ الْعَظِيمِ، قَالَ تَعَالَى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرَّحْمَن: ٦٠] .
وَلِمَا أَفَادَ اسْمُ الْإِشَارَةِ مِنْ عَظَمَةِ الْجَزَاءِ أُكِّدَ الْخَبَرُ بِ إِنَّ لدفع تو هم الْمُبَالَغَةِ، أَيْ هُوَ فَوْقَ مَا تَعْهَدُهُ فِي الْعَظَمَةِ وَمَا تُقَدِّرُهُ الْعُقُولُ.
وَفُهِمَ مِنْ ذِكْرِ الْمُحْسِنِينَ أَنَّ الْجَزَاءَ إِحْسَانٌ بِمِثْلِ الْإِحْسَانِ فَصَارَ الْمَعْنَى: إِنَّا كَذَلِكَ الْإِحْسَانَ الْعَظِيمَ الَّذِي أَحْسَنْتَهُ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، فَهَذَا وَعْدٌ بِمَرَاتِبَ عَظِيمَةٍ مِنَ الْفَضْلِ الرَّبَّانِيِّ، وَتَضَمَّنَ وَعْدُ ابْنِهِ بِإِحْسَانٍ مِثْلِهِ مِنْ جِهَةِ نَوْطِ الْجَزَاءِ بِالْإِحْسَانِ، وَقَدْ كَانَ إِحْسَانُ الِابْنِ عَظِيمًا بِبَذْلِ نَفْسِهِ.
وَقَدْ أُكِّدَ ذَلِكَ بِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ أَيْ هَذَا التَّكْلِيفُ الَّذِي كَلَّفْنَاكَ هُوَ الِاخْتِبَارُ الْبَيِّنُ، أَيِ الظَّاهِرُ دَلَالَةً عَلَى مَرْتَبَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ.
وَاسْتُعْمِلَ لَفْظُ الْبَلَاءِ مَجَازًا فِي لَازِمِهِ وَهُوَ الشَّهَادَةُ بِمَرْتَبَةِ مَنْ لَوِ اخْتُبِرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ
التَّكْلِيفِ لَعُلِمَتْ مَرْتَبَتُهُ فِي الطَّاعَةِ وَالصَّبْرِ وَقُوَّةِ الْيَقِينِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ فِي مَحَلِّ الْعِلَّةِ لِجُمْلَةِ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي مَوْقِعِ جُمْلَةِ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [الصافات: ٨١] فِي قِصَّةِ نُوحٍ.
وَجَوَابُ فَلَمَّا أَسْلَما مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَنادَيْناهُ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِهِ فِي صُورَةِ الْعَطْفِ إِيثَارًا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الْقِصَّةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِأَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى الْجَوَابِ تَحْصُلُ بِعَطْفِ بَعْضِ الْقِصَّةِ دُونَ الْعَكْسِ، وَحَذْفُ الْجَوَابِ فِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ مِنْ أَسَالِيبِهِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَاتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ [يُوسُف: ١٥، ١٦] .
وَجُمْلَةُ وَفَدَيْناهُ يَظْهَرُ أَنَّهَا مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ إِبْرَاهِيمَ.
وَالْمَعْنَى: وَقَدْ فَدَيْنَا ابْنَكَ بِذَبْحٍ عَظِيمٍ وَلَوْلَا هَذَا التَّقْدِيرُ تَكُونُ حِكَايَةُ نِدَاءِ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرَ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنَ النِّدَاءِ وَهُوَ إِبْطَالُ الْأَمْرِ بِذَبْحِ الْغُلَامِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute