وَكَذَلِكَ قَامَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قامُوا فَقالُوا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [١٤] .
وَقِيلَ: إِنَّ الِانْطِلَاقَ هُنَا عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَيْ وَانْصَرَفَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ عَنْ مَجْلِسِ أَبِي طَالِبٍ. والْمَلَأُ: سَادَةُ الْقَوْمِ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَائِلُ ذَلِكَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ. وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ عَطِيَّةَ: إِنَّ مِنَ الْقَائِلِينَ أَبَا جَهْلٍ، وَالْعَاصِيَ بْنَ وَائِلٍ، وَالْأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ يَغُوثَ.
وأَنِ تَفْسِيرِيَّةٌ لِأَنَّ الِانْطِلَاقَ إِنْ كَانَ مَجَازًا فَهُوَ فِي الشُّرُوعِ فَقَدْ أُرِيدَ بِهِ الشُّرُوعُ فِي الْكَلَامِ فَكَانَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ فَاحْتَاجَ إِلَى تَفْسِيرٍ بِكَلَامٍ مَقُولٍ، وَإِنْ كَانَ الِانْطِلَاقُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَقَدْ تَضَمَّنَ انْطِلَاقَهُمْ عَقِبَ التَّقَاوُلِ بَيْنَهُمْ بِكَلَامِهِمُ الْبَاطِلِ هَذَا ساحِرٌ [ص: ٤] إِلَى قَوْله: عُجابٌ [ص: ٥] يَقْتَضِي أَنَّهُمُ انْطَلَقُوا مُتَحَاوِرِينَ فِي مَاذَا يَصْنَعُونَ. وَلَمَّا أُسْنِدَ الِانْطِلَاقُ إِلَى الْمَلَأِ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا لِيَنْطَلِقُوا إِلَّا لِتَدْبِيرٍ فِي مَاذَا يَصْنَعُونَ فَكَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا تَحَاوُرًا وَتُقَاوُلًا احْتِيجَ إِلَى تَفْسِيره بِجُمْلَةِ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِلَخْ. وَالْأَمْرُ بِالْمَشْيِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً، أَيِ انْصَرِفُوا عَنْ هَذَا الْمَكَانِ مَكَانِ الْمُجَادَلَةِ، وَاشْتَغِلُوا بِالثَّبَاتِ عَلَى آلِهَتِكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا فِي
الِاسْتِمْرَارِ عَلَى دِينِهِمْ كَمَا يُقَالُ: كَمَا سَارَ الْكِرَامُ، أَيِ اعْمَلْ كَمَا عَمِلُوا، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْأَخْلَاقُ وَالْأَعْمَالُ الْمُعْتَادَةُ سِيرَةً.
وَالصَّبْرُ: الثَّبَاتُ وَالْمُلَازَمَةُ، يُقَالُ: صَبَرَ الدَّابَّةَ إِذَا رَبَطَهَا، وَمِنْهُ سُمِّيَ الثَّبَاتُ عِنْدَ حُلُولِ الضُّرِّ صَبْرًا لِأَنَّهُ مُلَازَمَةٌ لِلْحِلْمِ وَالْأَنَاةِ بِحَيْثُ لَا يَضْطَرِبُ بِالْجَزَعِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها [الْفرْقَان: ٤٢] ..
وَحَرْفُ عَلى يَدُلُّ عَلَى تَضْمِينِ اصْبِرُوا مَعْنَى: اعْكُفُوا وَاثْبُتُوا، فَحَرْفُ عَلى هُنَا لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِثْلَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة:
٥] . وَلَيْسَ هُوَ حَرْفَ عَلى الْمُتَعَارَفَ تَعْدِيَةُ فِعْلِ الصَّبْرِ بِهِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [المزمل: ١٠] فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَعْنَى (مَعَ) ، وَلِذَلِكَ يَخْلُفُهُ اللَّامُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَوْقِعِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الْقَلَم: ٤٨] ، وَلَا بُدَّ هُنَا مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ عَلَى عِبَادَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute