للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقُلْتُ: إِنَّ الْعَرَبَ مِنْ عَادَتِهِمُ التَّفَاؤُلُ وَلَهُمْ بِالْخَيْلِ عِنَايَةٌ عَظِيمَةٌ حَتَّى وَصَفُوا شِيَاتِهَا وَزَعَمُوا دَلَالَتَهَا عَلَى بَخْتٍ أَوْ نَحْسٍ فَلَعَلَّهُمْ سَمَّوْهَا الْخَيْرَ تَفَاؤُلًا لِتَتَمَحَّضَ لِلسَّعْدِ وَالْبَخْتِ.

وَضَمِيرُ تَوارَتْ لِلشَّمْسِ بِقَرِينَةِ ذِكْرِ الْعَشِيِّ وَحَرْفِ الْغَايَةِ وَلَفْظِ الْحِجَابِ، عَلَى أَنَّ الْإِضْمَارَ لِلشَّمْسِ فِي ذِكْرِ الْأَوْقَاتِ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ. كَمَا قَالَ لَبِيدٌ:

حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ ... وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا

أَيْ أَلْقَتِ الشَّمْسُ يَدَهَا فِي الظُّلْمَةِ، أَيْ أَلْقَتْ نَفْسَهَا فَهُوَ مِنَ التَّعْبِيرِ عَنِ الذَّاتِ بِبَعْضِ أَعْضَائِهَا.

وَالتَّوَارِي: الِاخْتِفَاءُ، وَالْحِجَابُ: السَّتْرُ فِي الْبَيْتِ الَّذِي تَحْتَجِبُ وَرَاءَهُ الْمَرْأَةُ وَغَيْرُهَا وَمِنْهُ قَوْلُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ.

وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِحَالَةِ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِتَوَارِي الْمَرْأَةِ وَرَاءَ الْحِجَابِ وَكُلٌّ مِنْ أَجْزَاءِ هَذِهِ التَّمْثِيلِيَّةِ مُسْتَعَارٌ فَلِلشَّمْسِ اسْتُعِيرَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَلِاخْتِفَائِهَا عَنِ الْأَنْظَارِ اسْتُعِيرَ التَّوَارِي، وَلِأُفُقِ غُرُوبِ الشَّمْسِ اسْتُعِيرَ الْحِجَابُ.

وَالْمَعْنَى: عُرِضَتْ عَلَيْهِ خَيْلُهُ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَاشْتَغَلَ بِأَحْوَالِهَا حُبًّا فِيهَا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَفَاتَتْهُ صَلَاةٌ كَانَ يُصليهَا فِي السَّمَاء قَبْلَ الْغُرُوبِ، فَقَالَ عَقِبَ عَرْضِ الْخَيْلِ وَقَدِ

انْصَرَفَتْ: إِنِّي أَحْبَبْتُ الْخَيْلَ فَغَفَلْتُ عَنْ صَلَاتِي لِلَّهِ.

وَكَلَامُهُ هَذَا خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحَسُّرِ كَقَوْلِ أُمِّ مَرْيَمَ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى [آل عمرَان: ٣٦] .

وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: رُدُّوها عَلَيَّ لِسَوَاسِ خَيْلِهِ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ عَائِدٌ إِلَى الْخَيْلِ بِالْقَرِينَةِ، أَيْ أَرْجِعُوا الْخَيْلَ إِلَيَّ، وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ إِلَى الشَّمْسِ وَالْخِطَابُ لِلْمَلَائِكَةِ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَلَوْلَا كَثْرَةُ ذِكْرِهِ فِي كُتُبِ الْمُفَسِّرِينَ لَكَانَ الْأَوْلَى بِنَا عَدَمَ التَّعَرُّضِ لَهُ.

وَأَحْسَنُ مِنْهُ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ فِي مَعَادِ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعْجِيزِ، أَيْ هَلْ تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَرُدُّوا الشَّمْسَ بَعْدَ غُرُوبِهَا، كَقَوْلِ مُهَلْهَلٍ: