فَتَخَطَّوْا لِلْبَحْثِ فِي أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ يُقَرَّرُ مِثْلُهُ فِي فِقْهِ الْإِسْلَامِ فِي الْإِفْتَاءِ فِي الْأَيْمَانِ وَهَلْ يُتَعَدَّى بِهِ إِلَى جَعْلِهِ أَصْلًا لِلْقِيَاسِ فِي كُلِّ ضَرْبٍ يَتَعَيَّنُ فِي الشَّرْعِ لَهُ عَدَدٌ إِذَا قَامَ فِي الْمَضْرُوبِ عُذْرٌ يَقْتَضِي التَّرْخِيصَ بَعْدَ الْبِنَاءِ عَلَى إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ عَلَى الرُّخَصِ، وَهَلْ يُتَعَدَّى بِهِ إِلَى جَعْلِهِ أَصْلًا لِلْقِيَاسِ أَيْضًا لِإِثْبَاتِ أَصْلٍ مُمَاثِلٍ وَهُوَ التَّحَيُّلُ بِوَجْهٍ شَرْعِيٍّ لِلِتَّخَلُّصِ مِنْ وَاجِبِ تَكْلِيفٍ شَرْعِيٍّ، وَاقْتَحَمُوا ذَلِكَ عَلَى مَا فِي حِكَايَةِ قِصَّةِ أَيُّوبَ مِنْ إِجْمَالٍ لَا يَتَبَصَّرُ بِهِ النَّاظِرُ فِي صِفَةِ يَمِينِهِ وَلَا لَفْظِهِ وَلَا نِيَّتِهِ إِذْ لَيْسَ مِنْ مَقْصِدِ الْقِصَّةِ.
فَأَمَّا فِي الْأَيْمَانِ فَقَدْ كَفَانَا اللَّهُ التَّكَلُّفَ بِأَنْ شَرَعَ لَنَا كَفَّارَاتِ الْأَيْمَانِ.
وَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي فعلت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ»
، فَصَارَ مَا فِي شَرْعِنَا نَاسِخًا لِمَا شُرِعَ لِأَيُّوبَ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْخَوْضِ فِيهَا، وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ الْعَمَلُ بِذَلِكَ اسْتِنَادًا لِكَوْنِهِ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا وَهُوَ قَولُ الشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ مَالِكٌ: هَذِهِ خَاصَّةٌ بِأَيُّوبَ أَفْتَى اللَّهُ بِهَا نَبِيئًا. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ خَصَّهُ بِمَا إِذَا حَلَفَ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ كَأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ أَقَلِّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الضَّرْبِ وَالْعَدَدِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى فَتْوَى أَيُّوبَ فِي كُلِّ ضَرْبٍ مُعَيَّنٍ بِعَدَدٍ فِي غَيْرِ الْيَمِينِ، أَيْ فِي بَابِ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ فَهُوَ تَطَوُّحٌ فِي الْقِيَاسِ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَلِاخْتِلَافِ مَقْصِدِ الشَّرِيعَةِ مِنَ الْكَفَّارَاتِ وَمَقْصِدِهَا مِنَ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ، وَلِتَرَتُّبِ الْمَفْسَدَةِ عَلَى إِهْمَالِ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ دُونَ الْكَفَّارَاتِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّسَامُحِ فِي الْحُدُودِ يُفْضِي إِلَى إِهْمَالِهَا وَمَصِيرِهَا عَبَثًا. وَمَا وَقَعَ فِي «سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ» مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَنْصَارِ «أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ كَانَ مَرِيضًا مُضْنًى فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ جَارِيَةٌ فَهَشَّ لَهَا فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَاسْتَفْتَوْا لَهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: لَوْ حَمَلْنَاهُ إِلَيْكَ لَتَفَسَّخَتْ عِظَامُهُ مَا هُوَ إِلَّا جِلْدٌ عَلَى عَظْمٍ فَأَمَرَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذُوا لَهُ مِائَةَ شِمْرَاخٍ فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute