عُضْوُ التَّنَفُّسِ فِي الصَّدْرِ، شُبِّهَ ذَلِكَ الِانْضِغَاطُ بِالضِّيقِ وَالِانْطِبَاقِ فَقَالُوا: ضَاقَ صَدْرُهُ، قَالَ تَعَالَى عَنْ مُوسَى: وَيَضِيقُ صَدْرِي [الشُّعَرَاء: ١٣] ، وَقَالُوا:
انْطَبَقَ صَدْرُهُ وَانْطَبَقَتْ أَضْلَاعُهُ وَقَالُوا فِي ضِدِّ ذَلِكَ: شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٢٥] ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ فِي انْشِرَاحٍ، أَيْ يُحِسُّ كَأَنَّ صَدْرَهُ شُرِحَ وَوُسِّعَ.
وَمِنْ رَشَاقَةِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ إِيثَارُ كَلِمَةِ شَرَحَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قَبُولِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ تَعَالِيمَ الْإِسْلَامِ وَأَخْلَاقَهُ وَآدَابَهُ تُكْسِبُ الْمُسْلِمَ فَرَحًا بِحَالِهِ وَمَسَرَّةً بِرِضَى رَبِّهِ وَاسْتِخْفَافًا لِلْمَصَائِبِ وَالْكَوَارِثِ لِجَزْمِهِ بِأَنَّهُ عَلَى حَقٍّ فِي أَمْرِهِ وَأَنَّهُ مُثَابٌ عَلَى ضُرِّهِ وَأَنَّهُ رَاجٍ رَحْمَةَ رَبِّهِ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلِعَدَمِ مُخَالَطَةِ الشَّكِّ وَالْحَيْرَةِ ضَمِيرَهُ.
فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ أَوَّلُ مَا يُؤْمِنُ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولُهُ يَنْشَرِحُ صَدْرُهُ بِأَنَّهُ ارْتَفَعَ دَرَجَاتٍ عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا حَالَةَ الشِّرْكِ أَنِ اجْتَنَبَ عِبَادَةَ أَحْجَارٍ هُوَ أَشْرَفُ مِنْهَا وَمُعْظَمُ مُمْتَلَكَاتِهِ أَشْرَفُ مِنْهَا كَفَرَسِهِ وَجَمَلِهِ وَعَبْدِهِ وَأَمَتِهِ وَمَاشِيَتِهِ وَنَخْلِهِ، فَشَعَرَ بِعِزَّةِ نَفْسِهِ مُرْتَفِعًا عَمَّا انْكَشَفَ لَهُ مِنْ مَهَانَتِهَا السَّابِقَةِ الَّتِي غَسَلَهَا عَنْهُ الْإِسْلَامُ، ثُمَّ أَصْبَحَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَنْطِقُ عَنِ الْحِكْمَةِ وَيَتَّسِمُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَأَصَالَةِ الرَّأْيِ وَمَحَبَّةِ فِعْلِ الْخَيْرِ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَلَا يَنْطَوِي بَاطِنُهُ عَلَى غِلٍّ وَلَا حَسَدٍ وَلَا كَرَاهِيَةٍ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَأَصْبَحَ يَعُدُّ الْمُسْلِمِينَ لِنَفْسِهِ إِخْوَانًا، وَقَدْ تَرَكَ الِاكْتِسَابَ بِالْغَارَةِ وَالْمَيْسِرِ، وَاسْتَغْنَى بِالْقَنَاعَةِ عَنِ الضَّرَاعَةِ إِلَّا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا مَسَّهُ ضَرٌّ رَجَا زَوَالَهُ وَلَمْ يَيْأَسْ مِنْ تَغَيُّرِ حَالِهِ. وَأَيْقَنَ أَنَّهُ مُثَابٌ عَلَى تَحَمُّلِهِ وَصَبْرِهِ، وَإِذَا مَسَّتْهُ نِعْمَةٌ حَمِدَ رَبَّهُ وَتَرَقَّبَ الْمَزِيدَ، فَكَانَ صَدْرُهُ مُنْشَرِحًا بِالْإِسْلَامِ مُتَلَقِّيًا الْحَوَادِثَ بِاسْتِبْصَارٍ غَيْرَ هَيَّابٍ شُجَاعَ الْقَلْبِ عَزِيزَ النَّفْسِ.
وَاللَّامُ فِي لِلْإِسْلامِ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ شَرَحَهُ لِأَجْلِ الْإِسْلَامِ، أَيْ لِأَجْلِ قَبُولِهِ. وَفُرِّعَ عَلَى أَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مِنْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute