تَأْثِيرِ كَلَامِهِ فِي النُّفُوسِ، وَلَمْ يَزَلْ شَأْنُ أَهْلِ الْخَطَابَةِ وَالْحِكْمَةِ الْحِرْصُ عَلَى تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ مِنْ كَلَامِهِمْ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يُوَاجَهُ بِهِ السَّامِعُونَ لِحُصُولِ فَوَائِدَ مَرْجُوَّةٍ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ، وَمَا تَبَارَى الْخُطَبَاءُ وَالْبُلَغَاءُ فِي مَيَادِينِ الْقَوْلِ إِلَّا لِلتَّسَابُقِ إِلَى غَايَاتِ الْإِقْنَاعِ، كَمَا قَالَ قَيْسُ بْنُ خَارِجَةَ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ: مَا عِنْدَكَ؟ «عِنْدِي قِرَى كُلِّ نَازِلٍ، وَرِضَى كُلِّ سَاخِطٍ، وَخُطْبَةٌ مِنْ لَدُنْ تَطَلُعُ الشَّمْسُ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ، آمُرُ فِيهَا بِالتَّوَاصُلِ وَأَنْهَى عَنِ التَّقَاطُعِ» . وَقَدْ ذَكَرَ أَرِسْطُو فِي الْغَرَضِ مِنَ الْخَطَابَةِ أَنَّهُ إِثَارَةُ الْأَهْوَاءِ وَقَالَ: «إِنَّهَا انْفِعَالَاتٌ فِي النَّفْسِ تُثِيرُ فِيهَا حُزْنًا أَوْ مَسَرَّةً» .
وَقَدِ اقْتَضَى قَوْلُهُ: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعَانٍ تَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ وَهِيَ الْمَعَانِي الْمَوْسُومَةُ بِالْجَزَالَةِ الَّتِي تُثِيرُ فِي النُّفُوسِ رَوْعَةً وَجَلَالَةً وَرَهْبَةً تَبْعُثُ عَلَى امْتِثَالِ السَّامِعِينَ لَهُ وَعَمَلِهِمْ بِمَا يَتَلَقَّوْنَهُ مِنْ قَوَارِعِ الْقُرْآنِ وَزَوَاجِرِهِ، وَكُنِّيَ عَنْ ذَلِكَ بِحَالَةٍ تُقَارِنُ انْفِعَالَ الْخَشْيَةِ وَالرَّهْبَةِ فِي النَّفْسِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا
ارْتَاعَ وَخَشِيَ اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ مِنْ أَثَرِ الِانْفِعَالِ الرَّهْبَنِيِّ، فَمَعْنَى تَقْشَعِرُّ مِنْهُ تَقْشَعِرُّ مِنْ سَمَاعِهِ وَفَهْمِهِ، فَإِنَّ السَّمَاعَ وَالْفَهْمَ يَوْمَئِذٍ مُتَقَارِنَانِ لِأَنَّ السَّامِعِينَ أَهْلُ اللِّسَانِ. يُقَالُ:
اقْشَعَرَّ الْجِلْدُ، إِذَا تَقَبَّضَ تَقَبُّضًا شَدِيدًا كَالَّذِي يَحْصُلُ عِنْدَ شِدَّةِ بَرْدِ الْجَسَدِ وَرِعْدَتِهِ. يُقَالُ:
اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ، إِذَا سَمِعَ أَوْ رَأَى مَا يُثِيرُ انْزِعَاجَهُ وَرَوْعَهُ، فَاقْشِعْرَارُ الْجُلُودِ كِنَايَةٌ عَنْ وَجِلِ الْقُلُوبِ الَّذِي تَلْزَمُهُ قَشْعَرِيرَةٌ فِي الْجِلْدِ غَالِبًا.
وَقَدْ عَدَّ عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ: الرَّوْعَةَ الَّتِي تَلْحَقُ قُلُوبَ سَامِعِيهِ عِنْدَ سَمَاعِهِ وَالْهَيْبَةَ الَّتِي تَعْتَرِيهِمْ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ لِعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ عَلَى كُلِّ كَلَامٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَهَابَهُ سَامِعُهُ، قَالَ تَعَالَى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الْحَشْر: ٢١] .
وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ كَانَ أَصْحَابُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا قرىء عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ كَمَا نَعَتَهُمُ اللَّهُ تَدْمَعُ أَعْيُنُهُمْ وَتَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ. وَخَصُّ الْقُشَعْرِيرَةُ بِالَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِاعْتِبَارِ مَا سَيُرْدَفُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ كَمَا يَأْتِي، قَالَ عِيَاضٌ: «وَهِيَ، أَيِ الرَّوْعَةِ الَّتِي تَلْحَقُ قُلُوبَ سَامِعِيهِ عِنْدَ سَمَاعِهِ، عَلَى الْمُكَذِّبِينَ بِهِ أَعْظَمُ حَتَّى كَانُوا يَسْتَثْقِلُونَ سَمَاعَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute