وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً [الْإِسْرَاء: ٤٦] .
وَهَذِهِ الرَّوْعَةُ قَدِ اعْتَرَتْ جَمَاعَةً قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ لَهَا لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ. حُكِيَ
فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مَطْعِمٍ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطَّوْرِ فَلَمَّا بَلَغَ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ إِلَى قَوْله:
الْمُصَيْطِرُونَ [الطّور: ٣٥- ٣٧] كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا وَقَرَ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِي»
. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ،
رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: «أُخْبِرْتُ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ كَلَّمَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَفِّهِ عَنْ سَبِّ أَصْنَامِهِمْ وَتَضْلِيلِهِمْ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ أُمُورًا وَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْمَعْ مَا أَقُولُ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ حم فُصِّلَتْ [١] حَتَّى بَلَغَ قَوْلَهُ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: ١٣] فَأَمْسَكَ عُتْبَةُ عَلَى فَمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَاشَدَهُ الرَّحِمَ أَنْ يَكُفَّ»
أَيْ عَنِ الْقِرَاءَةِ.
وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَا تَزَالُ رَوْعَتُهُ وَهَيْبَتُهُ إِيَّاهُ مَعَ تِلَاوَتِهِ تُولِيهِ انْجِذَابًا وَتُكْسِبُهُ هَشَاشَةً لِمَيْلِ قَلْبِهِ إِلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ.
الْجِهَةُ الثَّانِيَة من جِهَاتِ هَذَا الْوَصْفِ: لِينُ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ سَمَاعِهِ أَيْضًا عَقِبَ
وَجَلِهَا الْعَارِضِ مِنْ سَمَاعِهِ قَبْلُ.
وَاللِّينُ: مُسْتَعَارٌ لِلْقَبُولِ وَالسُّرُورِ، وَهُوَ ضِدٌّ لِلْقَسَاوَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا سَمِعَ آيَاتِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ يَخْشَى رَبَّهُ وَيَتَجَنَّبُ مَا حَذَّرَ مِنْهُ فَيَقْشَعِرُّ جِلْدُهُ فَإِذَا عُقِّبَ ذَلِكَ بِآيَاتِ الْبِشَارَةِ وَالْوَعْدِ اسْتَبْشَرَ وَفَرِحَ وَعَرَضَ أَعْمَالَهُ عَلَى تِلْكَ الْآيَاتِ فَرَأَى نَفْسَهُ مُتَحَلِّيَةً بِالْعَمَلِ الَّذِي وَعَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ بِالثَّوَابِ فَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ وَانْقَلَبَ الْوَجَلُ وَالْخَوْفُ رَجَاءً وَتَرَقُّبًا، فَذَلِكَ مَعْنَى لِينِ الْقُلُوبِ.
وَإِنَّمَا يَبْعَثُ هَذَا اللِّينَ فِي الْقُلُوبِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ مَعَانِي الرَّحْمَةِ وَذَلِكَ فِي الْآيَاتِ الْمَوْصُوفَةِ مَعَانِيهَا بِالسُّهُولَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: