للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: ٥٣] ، وَالْمَوْصُوفَةِ مَعَانِيهَا بِالرِّقَّةِ نَحْوَ: يَا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ [الزخرف: ٦٨- ٦٩] ، وَقَدْ عُلِمَ فِي فَنِّ الْخَطَابَةِ أَنَّ لِلْجَزَالَةِ مَقَامَاتُهَا وللسهولة والرقة مقاماتهما.

الْجِهَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ جِهَاتِ هَذَا الْوَصْفِ: أُعْجُوبَةُ جَمْعِهِ بَيْنَ التَّأْثِيرَيِنِ الْمُتَضَادَّيْنِ: مَرَّةً بِتَأْثِيرِ الرَّهْبَةِ، وَمَرَّةً بِتَأْثِيرِ الرَّغْبَةِ، لِيَكُونَ الْمُسْلِمُونَ فِي مُعَامَلَةِ رَبِّهِمْ جَارِينَ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ جَلَالُهُ وَمَا يَقْتَضِيهِ حِلْمُهُ وَرَحْمَتُهُ. وَهَذِهِ الْجِهَةُ اقْتَضَاهَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ الْمُصَرَّحِ بِهِمَا وَهُمَا جِهَةُ الْقُشَعْرِيرَةِ وَجِهَةُ اللِّينِ، مَعَ كَوْنِ الْمَوْصُوفِ بِالْأَمْرَيْنِ فَرِيقًا وَاحِدًا وَهُمُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، وَالْمَقْصُود وَصفهم بالتأثرين عِنْدَ تَعَاقُبِ آيَاتِ الرَّحْمَةِ بَعْدَ آيَاتِ الرَّهْبَةِ. قَالَ الْفَخْرُ: إِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ قَالُوا: «السَّائِرُونَ فِي مَبْدَأِ جَلَالِ اللَّهِ إِنْ نَظَرُوا إِلَى عَالَمِ الْجَلَالِ طَاشُوا، وَإِنْ لَاحَ لَهُمْ أَثَرٌ مِنْ عَالَمِ الْجَمَالِ عَاشُوا» اهـ-. فَالْآيَةُ هُنَا ذَكَرَتْ لَهُمُ الْحَالَتَيْنِ لِوُقُوعِهَا بَعْدَ قَوْلِهِ: مَثانِيَ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا، وَإِلَّا فَقَدِ اقْتُصِرَ عَلَى وَصْفِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْوَجَلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ فِي سُورَةِ [الْأَنْفَالِ: ٢] ، فَالْمَقَامُ هُنَا لِبَيَانِ تَأَثُّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ، وَالْمَقَامُ هُنَالِكَ لِلثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْخَشْيَةِ مِنَ اللَّهِ فِي غَيْرِ حَالَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ.

وَإِنَّمَا جُمِعَ بَيْنَ الْجُلُودِ وَالْقُلُوبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَلَمْ يُكْتَفَ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَنِ الْآخَرِ كَمَا اكْتُفِيَ فِي قَوْلِهِ: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ لِأَنَّ اقْشِعْرَارَ الْجُلُودِ حَالَةٌ طَارِئَةٌ عَلَيْهَا لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ وَجَلِ الْقُلُوبِ وَرَوْعَتِهَا فَكُنِّيَ بِهِ عَنْ تِلْكَ الرَّوْعَةِ.

وَأَمَّا لِينُ الْجُلُودِ عَقِبَ تِلْكَ الْقُشَعْرِيرَةِ فَهُوَ رُجُوعُ الْجُلُودِ إِلَى حَالَتِهَا السَّابِقَةِ قَبْلَ اقْشِعْرَارِهَا، وَذَلِكَ قَدْ يَحْصُلُ عَنْ تَنَاسٍ أَوْ تَشَاغُلٍ بَعْدَ تِلْكَ الرَّوْعَةِ، فَعُطِفَ عَلَيْهِ لِينَ الْقُلُوبِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لين خَاص ناشىء عَنِ اطْمِئْنَانِ الْقُلُوبِ بِالذِّكْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْد: ٢٨] وَلَيْسَ مُجَرَّدُ رُجُوعِ الْجُلُودِ إِلَى حَالَتِهَا الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ الْقُشَعْرِيرَةِ. وَلَمْ يُكْتَفَ بِذِكْرِ لِينِ الْقُلُوب عَن لين الْجُلُودِ لِأَنَّهُ قُصِدَ أَنَّ لِينَ الْقُلُوبِ أَفْعَمَهَا حَتَّى ظَهَرَ أَثَرُهُ عَلَى ظَاهِرِ الْجُلُودِ.