وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ عُتْبَةَ. فَقُلْنَا:
الْمَوْعِدُ أَضَاةُ بَنِي غِفَارٍ، وَقُلْنَا: مَنْ تَأَخَّرَ مِنَّا فَقَدْ حُبِسَ فَلْيَمْضِ صَاحِبَاهُ. فَأَصْبَحْتُ أَنَا وَعَيَّاشُ بْنُ عُتْبَةَ وَحُبِسَ عَنَّا هِشَامٌ وَإِذَا هُوَ قَدْ فُتِنَ فَافْتَتَنَ فَكُنَّا نَقُولُ بِالْمَدِينَةِ: هَؤُلَاءِ قَدْ عَرَفُوا اللَّهَ ثُمَّ افْتَتَنُوا لِبَلَاءٍ لَحِقَهُمْ لَا نَرَى لَهُمْ تَوْبَةً. وَكَانُوا هُمْ يَقُولُونَ هَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا إِلَى قَوْله: مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: ٦٠] قَالَ عُمَرُ فَكَتَبْتُهَا بِيَدِي ثُمَّ بَعَثْتُهَا إِلَى هِشَامٍ. قَالَ هِشَامٌ: فَلَمَّا قَدِمَتْ عَلَيَّ خَرَجْتُ بِهَا إِلَى ذِي طَوَى فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ فَهِّمْنِيهَا فَعَرَفْتُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِينَا فَرَجَعْتُ فَجَلَسْتُ عَلَى بَعِيرِي فَلَحِقْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» اهـ. فَقَوْلُ عُمَرَ: «فَأَنْزَلَ اللَّهُ» يُرِيدُ أَنَّهُ سَمِعَهُ بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ وَأَنَّهُ مِمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ فَلَمْ يَسْمَعْهُ عُمَرُ إِذْ كَانَ فِي شَاغِلِ تَهْيِئَةِ الْهِجْرَةِ فَمَا سَمِعَهَا إِلَّا وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ فَإِنَّ عُمَرَ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ تَمْهِيدٌ بِإِجْمَالٍ يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْآيَاتِ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ [الزمر: ٥٤] . وَبَعْدَ هَذَا فَعُمُومُ «عِبَادِيَ» وَعُمُومُ صِلَةِ الَّذِينَ أَسْرَفُوا يَشْمَلُ أَهْلَ الْمَعَاصِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنَ الْخِطَابِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى عَادَةِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ مِنْ كَثْرَةِ الْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي الَّتِي تُفَرَّغُ فِي قَوَالِبٍ تَسَعُهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا بِفَتْحِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ بِإِسْكَانِ الْيَاءِ. وَلَعَلَّ وَجْهَ ثُبُوتِ الْيَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دُونَ نَظِيرِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ [الزمر: ١٠] ، أَنَّ الْخِطَابَ هُنَا لِلَّذِينَ أَسْرَفُوا وَفِي مُقَدِّمَتِهِمُ الْمُشْرِكُونَ وَكُلُّهُمْ مَظِنَّةُ تَطَرُّقِ الْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِلَى نُفُوسِهِمْ، فَكَانَ إِثْبَاتُ (يَا) الْمُتَكَلِّمِ فِي خِطَابِهِمْ زِيَادَةَ تَصْرِيحٍ بِعَلَامَةِ التَّكَلُّمِ تَقْوِيَةً لِنِسْبَةِ عُبُودِيَّتِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِيمَاءً إِلَى أَنَّ شَأْنَ الرَّبِّ الرَّحْمَةُ بِعِبَادِهِ.
وَالْإِسْرَافُ: الْإِكْثَارُ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْإِسْرَافُ فِي الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْإِسْرَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦] وَقَوْلِهِ: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٣٣] . وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُعَدَّى إِلَى مُتَعَلِّقِهِ بِحَرْفِ مِنْ، وَتَعْدِيَتُهُ هُنَا بِ- (عَلَى) لِأَنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute