للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لطف بِأَهْل بِمَكَّة فَجَعَلَ لَهُمْ جَبَلًا مِنَ الْمَرْوَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ فِي اقْتِدَاحِهِمْ وَفِي ذَبَائِحِهِمْ، وَجَعَلَ قُبَالَتَهُ الصَّفَا لِلِانْتِفَاعِ بِهِ فِي بِنَائِهِمْ.

وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةُ بِقُرْبِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَبَيْنَهُمَا مَسَافَةُ سَبْعِمِائَةٍ وَسَبْعِينَ ذِرَاعًا وَطَرِيقُ السَّعْيِ بَيْنَهُمَا يَمُرُّ حَذْوَ جِدَارِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالصَّفَا قَرِيبٌ مِنْ بَابٍ يُسَمَّى بَابَ الصَّفَا مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَيَصْعَدُ السَّاعِي إِلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بِمِثْلِ الْمُدَرَّجَةِ.

وَالشَّعَائِرُ جَمْعُ شَعِيرَةٍ بِفَتْحِ الشِّينِ وَشِعَارَةٍ بِكَسْرِ الشِّينِ بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ مُشْتَقٌّ مَنْ شَعَرَ إِذَا عَلِمَ وَفَطِنَ، وَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مُفَعْوِلَةٍ أَيْ مُعْلَمٌ بِهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ أُشْعِرَ الْبَعِيرُ إِذَا جُعِلَ لَهُ سِمَةٌ فِي سَنَامِهِ بِأَنَّهُ مُعَدٌّ لِلْهَدْيِ. فَالشَّعَائِرُ مَا جُعِلَ عَلَامَةً عَلَى أَدَاءِ عَمَلٍ مِنْ عَمَلِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَهِيَ الْمَوَاضِعُ الْمُعَظَّمَةُ مِثْلُ الْمَوَاقِيتِ الَّتِي يَقَعُ عِنْدَهَا الْإِحْرَامُ، وَمِنْهَا الْكَعْبَةُ وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامِ وَالْمَقَامُ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةُ وَعَرَفَةُ وَالْمَشْعَرُ الْحَرَامُ بِمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى وَالْجِمَارُ.

وَمَعْنَى وَصْفِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بِأَنَّهُمَا مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُمَا عَلَامَتَيْنِ عَلَى مَكَانِ عِبَادَةٍ كَتَسْمِيَةِ مَوَاقِيتِ الْحَجِّ مَوَاقِيتَ فَوَصْفُهُمَا بِذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ السَّعْيَ بَيْنَهُمَا عِبَادَةٌ إِذْ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِمَا عِبَادَةٌ جُعِلَا عَلَامَةً عَلَيْهَا غَيْرُ السَّعْيِ بَيْنَهُمَا، وَإِضَافَتُهُمَا إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُمَا عَلَامَتَانِ عَلَى عِبَادَتِهِ أَوْ لِأَنَّهُ جَعَلَهُمَا كَذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ تَفْرِيعٌ عَلَى كَوْنِهِمَا مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، وَأَنَّ السَّعْيَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مِنَ الْمَنَاسِكِ فَلَا يُرِيبُهُ مَا حَصَلَ فِيهِمَا مِنْ صُنْعِ الْجَاهِلِيَّةِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُقَدَّسَ لَا يُزِيلُ تَقْدِيسَهُ مَا يَحُفُّ بِهِ من سيء الْعَوَارِضِ، وَلِذَلِكَ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ فَلا جُناحَ عَلَى نَفْيِ مَا اخْتَلَجَ فِي نُفُوسِهِمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.

وَالْجُنَاحُ بِضَمِّ الْجِيمِ الْإِثْمُ مُشْتَقٌّ مِنْ جَنَحَ إِذَا مَالَ لِأَنَّ الْإِثْمَ يَمِيلُ بِهِ الْمَرْءُ عَنْ طَرِيقِ الْخَيْرِ، فَاعْتَبَرُوا فِيهِ الْمَيْلَ عَنِ الْخَيْرِ عَكْسَ اعْتِبَارِهِمْ فِي حَنَفٍ أَنَّهُ مَيْلٌ عَنِ الشَّرِّ إِلَى الْخَيْرِ.

وَالْحَجُّ اسْمٌ فِي اللُّغَةِ لِلْقَصْدِ وَفِي الْعرف غلب عَلَى قَصْدِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ الَّذِي بِمَكَّةَ لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ بِالطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالْإِحْرَامِ وَلِذَلِكَ صَارَ بِالْإِطْلَاقِ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِي هَذَا الْمَعْنَى جِنْسًا بِالْغَلَبَةِ كَالْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» «وَهُمَا (أَيِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ) فِي الْمَعَانِي كَالنَّجْمِ وَالْبَيْتِ فِي الذَّوَاتِ (١) » ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ مُضَافٍ إِلَيْهِ إِلَّا فِي مَقَامِ الِاعْتِنَاءِ بِالتَّنْصِيصِ وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مَقْطُوعًا عَنِ الْإِضَافَةِ نَحْوَ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ إِلَى قَوْلِهِ:


(١) فِي «الْكَشَّاف» ، وَالنَّقْل مِنْهُ، (الْأَعْيَان) .