للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

السُّورَةِ [٤] أَنَّ مِنْ صُوَرِ مُجَادَلَتِهِمْ فِي الْآيَاتِ إِظْهَارَهُمْ عَدَمَ الِاقْتِنَاعِ بِمُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ فَكَانُوا يَقْتَرِحُونَ آيَاتٍ كَمَا يُرِيدُونَ لِقَصْدِهِمْ إِفْحَامَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا انْقَضَى تَفْصِيلُ الْإِبْطَالِ لِضَلَالِهِمْ بِالْأَدِلَّةِ الْبَيِّنَةِ وَالتَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ وَالْإِنْذَارِ بِالتَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ ثُمَّ بِوَعْدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ وَتَحْقِيقِ الْوَعْدِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَثْبِيتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ مَا كَانَ شَأْنُهُ إِلَّا شَأْنَ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ أَنْ لَا يَأْتُوا بِالْآيَاتِ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ وَلَا اسْتِجَابَةً لِرَغَائِبِ مُعَانِدِيهِمْ وَلَكِنَّهَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ يُظْهِرُ مَا شَاءَ مِنْهَا بِمُقْتَضَى إِرَادَتِهِ الْجَارِيَةِ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالرَّدِّ عَلَى الْمُجَادِلِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَتَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى خَطَأِ ظَنِّهِمْ أَنَّ الرُّسُلَ تَنْتَصِبُ لِمُنَاقَشَةِ الْمُعَانِدِينَ.

فَالْمَقْصُودُ الْأَهَمُّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ قَوْلُهُ: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ إِلَخْ فَهُوَ كَمُقَدَّمَةٍ لِلْمَقْصُودِ لِتَأْكِيدِ الْعُمُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُفِيدُ بِتَقْدِيمِهِ مَعْنًى مُسْتَقِلًّا مِنْ رَدِّ مُجَادَلَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام:

٩١] وَيَقُولُونَ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَام: ٨] فَدُمِغَتْ مَزَاعِمُهُمْ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ تَكَرُّرِ بِعْثَةِ الرُّسُلَ فِي الْعُصُورِ وَالْأُمَمِ الْكَثِيرَةِ.

وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ رُسُلًا وَأَنْبِيَاءَ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَعْلَمَ الله بهم نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُعْلِمْهُ بِهِمْ إِذْ لَا كَمَالَ فِي الْإِعْلَامِ بِمَنْ لَمْ يُعْلِمْهُ بِهِمْ، وَالَّذِينَ أَعْلَمَهُ بِهِمْ مِنْهُمْ مَنْ قَصَّهُ فِي الْقُرْآنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَعْلَمَهُ بِهِمْ بِوَحْيٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ فَوَرَدَ ذِكْرُ بَعْضِهِمْ فِي الْآثَارِ الصَّحِيحَةِ بِتَعْيِينٍ أَوْ بِدُونِ تَعْيِينٍ،

فَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ نَبِيئًا اسْمُهُ عَبُّودٌ عَبْدًا

أَسْوَدَ»

وَفِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ: حَنْظَلَةَ بْنِ صَفْوَانَ نَبِيِّ أَهْلِ الرَّسِّ، وَذِكْرُ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ نَبِيِّ (١) عَبْسٍ،

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ نَبِيئًا لَسَعَتْهُ نَمْلَةٌ فَأَحْرَقَ قَرْيَتَهَا فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ»

. وَلَا يَكَادُ النَّاسُ يُحْصُونَ عَدَدَهُمْ لِتَبَاعُدِ أَزْمَانِهِمْ وَتَكَاثُرِ أُمَمِهِمْ وَتَقَاصِي أَقْطَارِهِمْ مِمَّا لَا تُحِيطُ بِهِ عُلُومُ النَّاسِ وَلَا تَسْتَطِيعُ إِحْصَاءَهُ أَقْلَامُ الْمُؤَرِّخِينَ وَأَخْبَارُ الْقَصَّاصِينَ وَقَدْ حَصَلَ مِنَ الْعِلْمِ بِبَعْضِهِمْ وَبَعْضِ أُمَمِهِمْ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ لِتَحْصِيلِ الْعِبْرَةِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ.


(١) فِي المطبوعة (بني) .