للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَإِنَّمَا أَمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ لِأَنَّ مُنْتَهَى الْكَمَالِ الْبَشَرِيِّ خُلُقُهُ كَمَا

قَالَ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ»

. وَقَالَتْ عَائِشَةُ لَمَّا سُئِلَتْ عَنْ خُلُقِهِ (كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ) لِأَنَّهُ أَفْضَلُ الْحُكَمَاء.

وَالْإِحْسَان كَمَا ذَاتِيٌّ وَلَكِنَّهُ قَدْ يَكُونُ تَرْكُهُ مَحْمُودًا فِي الْحُدُودِ وَنَحْوِهَا فَذَلِكَ مَعْنًى خَاصٌّ. وَالْكَمَالُ مَطْلُوبٌ لِذَاتِهِ فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ مَا اسْتَطَاعَ مَا لَمْ يُخْشَ فَوَاتُ كَمَالٍ أَعْظَمَ، وَلِذَلِكَ

قَالَتْ عَائِشَةُ: «مَا انْتَقَمَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ قَطُّ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ فَيَغْضَبَ

لِلَّهِ»

. وَتَخَلُّقُ الْأُمَّةِ بِهَذَا الْخُلُقِ مَرْغُوبٌ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: ٤٠] .

وَرَوَى عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» وَهُوَ مِمَّا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنُ جَرِيرٍ فِي «تَفْسِيرِهِ» لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: خُذِ الْعَفْوَ [الْأَعْرَاف: ١٩٩] سَأَلَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَنْ تَأْوِيلِهَا فَقَالَ لَهُ: حَتَّى أَسْأَلَ الْعَالِمَ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: «يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ»

. وَمَفْعُولُ ادْفَعْ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ انْحِصَارُ الْمَعْنَى بَيْنَ السَّيِّئَةِ وَالْحَسَنَةِ، فَلَمَّا أُمِرَ بِأَنْ تَكُونَ الْحَسَنَةُ مَدْفُوعًا بِهَا تَعَيَّنَ أَنَّ الْمَدْفُوعَ هُوَ السَّيِّئَةُ، فَالتَّقْدِيرُ: ادْفَعِ السَّيِّئَةَ بِالَّتِي هِيَ أحسن كَقَوْلِه تَعَالَى: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٢٢] وَقَوْلِهِ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ فِي سُورَة الْمُؤمنِينَ [٩٦] .

وبِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ هِيَ الْحَسَنَةُ، وَإِنَّمَا صِيغَتْ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ تَرْغِيبًا فِي دَفْعِ السَّيِّئَةِ بِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ فَإِنَّ الْغَضَبَ مِنْ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ مِنْ طِبَاعِ النَّفْسِ وَهُوَ يَبْعَثُ عَلَى حُبِّ الِانْتِقَامِ مِنَ الْمُسِيءِ فَلَمَّا أَمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُجَازِيَ السَّيِّئَةَ بِالْحَسَنَةِ أُشِيرَ إِلَى فَضْلِ ذَلِكَ. وَقَدْ

وَرَدَ فِي صِفَةِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ»

. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ وَصْفُهُ فِي التَّوْرَاةِ. وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ قَوْلُهُ: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ لِبَيَانِ مَا فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ مِنَ الصَّلَاحِ تَرْوِيضًا عَلَى التَّخَلُّقِ بِذَلِكَ الْخُلُقِ الْكَرِيمِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ النَّفْسُ مَصْدَرًا لِلْإِحْسَانِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْآثَارُ الصَّالِحَةُ تَدُلُّ عَلَى صَلَاحِ مَثَارِهَا. وَأَمَرَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ بَعْضِ مَحَاسِنِهِ