لِأَنَّ كَوْنَهُ قُرْآنًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ، فَوَصْفُهُ بِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا يُفِيدُ أَنَّهُ كَلَامٌ عَرَبِيٌّ.
وَقَوْلُهُ: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها تَعْلِيلٌ لِ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِأَنَّ كَوْنَهُ عَرَبِيًّا يَلِيقُ بِحَالِ الْمُنْذَرِينَ بِهِ وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا، فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِالدِّينِ ابْتِدَاءً لِمَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ مِنِ اخْتِيَارِ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ لِتَكُونَ أَوَّلَ مَنْ يَتَلَقَّى الْإِسْلَامَ وَيَنْشُرُهُ بَيْنَ الْأُمَمِ، وَلَوْ رُوعِيَ فِيهِ جَمِيعُ الْأُمَمِ الْمُخَاطَبِينَ بِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ لَاقْتَضَى أَنْ يَنْزِلَ بِلُغَاتٍ لَا تُحْصَى، فَلَا جَرَمَ اخْتَارَ اللَّهُ لَهُ أَفْضَلَ اللُّغَاتِ وَاخْتَارَ إِنْزَالَهُ عَلَى أَفْضَلِ الْبَشَرِ.
وأُمَّ الْقُرى مَكَّةُ، وَكُنِّيَتْ: أُمَّ الْقُرَى لِأَنَّهَا أَقْدَمُ الْمُدُنِ الْعَرَبِيَّةِ فَدَعَاهَا الْعَرَبُ: أُمَّ الْقُرَى، لِأَنَّ الْأُمَّ تُطْلَقُ عَلَى أَصْلِ الشَّيْءِ مِثْلَ: أُمِّ الرَّأْسِ، وَعَلَى مَرْجِعِهِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ لِلرَّايَةِ:
أُمُّ الْحَرْبِ، وَقَوْلِهِمْ: أُمُّ الطَّرِيقِ، لِلطَّرِيقِ الْعَظِيمِ الَّذِي حَوْلَهُ طُرُقٌ صِغَارٌ. ثُمَّ إِنَّ إِنْذَارَ أُمِّ الْقُرَى يَقْتَضِي إِنْذَارَ بَقِيَّةِ الْقُرَى بِالْأَحْرَى، قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا [الْقَصَص: ٥٩] ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٩٢] .
وَالْمُرَادُ: لِتُنْذَرَ أَهْلَ أُمِّ الْقُرَى، فَأَطْلَقَ اسْمَ الْبَلَدِ عَلَى سُكَّانِهِ كَقَوْلِه تَعَالَى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُف: ٨٢] . وَأَهْلُ مَكَّةَ هُمْ قُرَيْشٌ، وَأَمَّا مَنْ حَوْلَهَا فَهُمُ النَّازِلُونَ حَوْلَهَا مِنَ الْقَبَائِلِ مِثْلَ خُزَاعَةَ وَكِنَانَةَ، وَمِنَ الَّذِينَ حَوْلَهَا قُرَيْشٌ الظَّوَاهِرُ وَهُمُ السَّاكِنُونَ خَارِجَ مَكَّةَ فِي جِبَالِهَا.
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى إِنْذَارِ أُمِّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا لَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ إنذار الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا، وَلَا تَخْصِيص الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِنْذَارِ دُونَ التَّبْشِيرِ لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ تَعْلِيلَ الْفِعْلِ بِعِلَّةِ بَاعِثِهِ لَا يَقْتَضِي أَنَّ الْفِعْلَ الْمُعَلَّلَ مُخَصَّصٌ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ وَلَا بِمُتَعَلِّقَاتِهَا إِذْ قَدْ يَكُونُ لِلْفِعْلِ الْوَاحِدِ عِلَلٌ بَاعِثَةٌ فَإِن الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ لِلنَّاسِ كَافَّةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ: ٢٨] . وَالِاقْتِصَارُ هُنَا عَلَى إِنْذَارِ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ لِإِنْكَارِهِمْ رِسَالَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute