للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ» الحَدِيث.

وَعَلِيهِ فَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنْ لَا يَحْمِلَ جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبَحْرِ مُؤَوَّلٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَتَرْكِ التَّغْرِيرِ (١) وَأَنَا أَحْسَبُهُ قَدْ قَصَدَ مِنْهُ

خَشْيَةَ تَأَخُّرِ نَجَدَاتِ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزَوَاتِهِمْ لِأَنَّ السُّفُنَ قَدْ يَتَأَخَّرُ وُصُولُهَا إِذَا لَمْ تُسَاعِفْهَا الرِّيَاحُ الَّتِي تَجْرِي بِمَا لَا تَشْتَهِي السُّفُنُ وَلِأَنَّ رُكُوبَ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ فِي سُفُنِ ذَلِكَ الْعَصْرِ مَظِنَّةُ وُقُوعِ الْغَرَقِ، وَلِأَنَّ عَدَدَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَدُوِّ فَلَا يَنْبَغِي تَعْرِيضُهُ لِلْخَطَرِ فَذَلِكَ مِنَ النَّظَرِ فِي الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ فِي أَحْوَالٍ مُعَيَّنَةٍ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي أَحْكَامٍ خَاصَّةٍ لِلنَّاسِ. وَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ اسْتَأْذَنَ مُعَاوِيَةُ عُثْمَانَ فَأَذِنَ لَهُ فِي رُكُوبِهِ فَرَكِبَهُ لِغَزْوِ (قُبْرُصَ) ثُمَّ لِغَزْوِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ وَفِي غَزْوَةِ (قُبْرُصَ) ظَهَرَ تَأْوِيل رُؤْيا النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أُمِّ حَرَامٍ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ نَهَى عَنْ رُكُوبِهِ ثُمَّ رَكِبَهُ النَّاسُ بَعْدَهُ.

وَرُوِيَ عَن مَالك كَرَاهَة سَفَرِ الْمَرْأَةِ فِي الْبَحْرِ لِلْحَجِّ وَالْجِهَادِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَحَدِيثُ أُمِّ حَرَامٍ يَرُدُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَلَكِنْ تَأَوَّلَهَا أَصْحَابُهُ بِأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ لِخَشْيَةِ اطِّلَاعِهِنَّ عَلَى عَوْرَاتِ الرِّجَالِ لِعُسْرِ الِاحْتِرَازِ مِنْ ذَلِكَ فَخَصَّهُ أَصْحَابُهُ بِسُفُنِ أَهْلِ الْحِجَازِ لِصِغَرِهَا وَضِيقِهَا وَتَزَاحُمِ النَّاسِ فِيهَا مَعَ كَوْنِ الطَّرِيقِ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ مِنَ الْبَرِّ مُمْكِنًا سَهْلًا وَأَمَّا السُّفُنُ الْكِبَارُ كَسُفُنِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ الَّتِي يُمْكِنُ فِيهَا الِاسْتِتَارُ وَقِلَّةُ التَّزَاحُمِ فَلَيْسَ بِالسَّفَرِ فِيهَا لِلْمَرْأَةِ بَأْسٌ عِنْدَ مَالِكٍ (٢) .

وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَسْمَاءِ الَّتِي قَبْلَهُ جِيءَ بِهِ اسْمٌ مَوْصُولٌ لِيَأْتِيَ عَطْفُ صِلَةٍ عَلَى صِلَةٍ فَتَبْقَى الْجُمْلَةُ بِمَقْصِدِ الْعِبْرَةِ وَالنِّعْمَةِ، فَالصِّلَةُ الْأُولَى وَهِيَ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ تَذْكِيرٌ بِالْعِبْرَةِ لِأَنَّ فِي الصِّلَةِ مِنَ اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ مَا لَيْسَ فِي نَحْوِ كَلِمَةِ الْمَطَرِ وَالْغَيْثِ، وَإِسْنَادُ الْإِنْزَالِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ الَّذِي أَوْجَدَ أَسْبَابَ نُزُولِ الْمَاءِ بِتَكْوِينِهِ الْأَشْيَاءَ عِنْدَ خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ عَلَى نِظَامٍ مُحْكَمٍ.

وَالسَّمَاءُ الْمُفْرَدُ هُوَ الْجَوُّ وَالْهَوَاءُ الْمُحِيطُ بِالْأَرْضِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَهُوَ الَّذِي يُشَاهِدُهُ جَمِيعُ السَّامِعِينَ.


(١) قَالَه الْقُرْطُبِيّ فِي (٢/ ١٩٥) .
(٢) «التَّمْهِيد» لِابْنِ الْبر (١/ ٢٣٣، ٢٣٤) ، ط. الْمغرب.