وَوجه الْعبْرَة فِيهِ أَنَّ شَأْنَ الْمَاءِ الَّذِي يَسْقِي الْأَرْضَ أَنْ يَنْبُعَ مِنْهَا فَجَعْلُ الْمَاءِ نَازِلًا عَلَيْهَا مِنْ- ضِدِّهَا وَهُوَ السَّمَاءُ- عِبْرَةٌ عَجِيبَةٌ.
وَفِي الْآيَةِ عِبْرَةٌ عِلْمِيَّةٌ لِمَنْ يَجِيءُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ وَذَلِكَ أَنَّ جَعْلَ الْمَاءِ نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ بُخَارَ الْمَاءِ يَصِيرُ مَاءً فِي الكرة الهوائية عِنْد مَا يُلَامِسُ الطَّبَقَةَ
الزَّمْهَرِيرِيَّةَ وَهَذِهِ الطَّبَقَةُ تصير زمهريرا عِنْد مَا تَقِلُّ حَرَارَةُ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ، وَلَعَلَّ فِي بَعْضِ الْأَجْرَامِ الْعُلْوِيَّةِ وَخَاصَّةً الْقَمَرِ أَهْوِيَةً بَارِدَةً يَحْصُلُ بِهَا الزَّمْهَرِيرُ فِي ارْتِفَاعِ الْجَوِّ فَيَكُونُ لَهَا أَثَرٌ فِي تَكْوِينِ الْبُرُودَةِ فِي أَعْلَى الْجَوِّ فأسند إِلَيْهَا بإنزال الْمَاءِ مَجَازًا عَقْلِيًّا وَرُبَّمَا يُسْتَرْوَحُ لِهَذَا بِحَدِيثٍ مَرْوِيٍّ وَهُوَ أَنَّ الْمَطَرَ يَنْزِلُ مِنْ بَحْرٍ تَحْتَ الْعَرْشِ أَيْ أَنَّ عُنْصُرَ الْمَائِيَّةِ يَتَكَوَّنُ هُنَالك ويصل بالمجاورة حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى جَوِّنَا قَلِيلٌ مِنْهُ فَإِذَا صَادَفَتْهُ الْأَرْضُ تكون من ازدواجهما الْمَاءُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ [النُّور: ٤٣] ، وَلَعَلَّهَا جِبَالُ كُرَةِ الْقَمَرِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْهَيْئَةِ أَنَّ نَهَارَ الْقَمَرِ يَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَيْلُهُ كَذَلِكَ، فَيَحْصُلُ فِيهِ تَغْيِيرٌ عَظِيمٌ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ إِلَى شِدَّةِ الْبَرْدِ فَإِذَا كَانَتْ مُدَّةُ شِدَّةِ الْبَرْدِ هِيَ مُدَّةَ اسْتِقْبَالِهِ الْأَرْضَ أَحْدَثَ فِي جَوِّ الْأَرْضِ عُنْصُرَ الْبُرُودَةِ.
وَقَوْلُهُ: فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مَعْطُوفٌ عَلَى الصِّلَةِ بِالْفَاءِ لِسُرْعَةِ حَيَاةِ الْأَرْضِ إِثْرَ نُزُولِ الْمَاءِ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ الْفِعْلُ وَالْفَاءُ مَوْضِعُ عِبْرَةٍ وَمَوْضِعُ مِنَّةٍ. وَأُطْلِقَتِ الْحَيَاةُ عَلَى تَحَرُّكِ الْقُوَى النَّامِيَةِ مِنَ الْأَرْضِ وَهِيَ قُوَّةُ النَّبَاتِ اسْتِعَارَةً لِأَنَّ الْحَيَاةَ حَقِيقَةً هِيَ ظُهُورُ الْقُوَى النَّامِيَةِ فِي الْحَيَوَانِ فَشُبِّهَتِ الْأَرْضُ بِهِ. وَإِذَا جَعَلْنَا الْحَيَاةَ حَقِيقَةً فِي ظُهُورِ قَوَى النَّمَاءِ وَجَعَلْنَا النَّبَاتَ يُوصَفُ بِالْحَيَاةِ حَقِيقَةً وَبِالْمَوْتِ فَقَوْلُهُ: فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ وَالْمُرَادُ إِحْيَاءُ مَا تُرَادُ لَهُ الْأَرْضُ وَهُوَ النَّبَاتُ.
وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَبَيْنَ أَحْيَا وَمَوْتٍ طِبَاقَانِ.
وَقَوْلُهُ: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ عَطْفٌ إِمَّا عَلَى أَنْزَلَ فَيَكُونُ صِلَةً ثَانِيَةً وَبِاعْتِبَارِ مَا عُطِفَ قَبْلَهُ عَلَى الصِّلَةِ صِلَةً ثَالِثَةً، وَإِمَّا عطف على فَأَحْيا فَيَكُونُ مَعْطُوفًا ثَانِيًا عَلَى الصِّلَةِ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ آيَةٌ وَمِنَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، فَإِنْ جَعَلْتَهُ عَطْفًا عَلَى الصِّلَةِ فَمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ بَيَانِيَّةٌ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، وَإِنْ جَعَلْتَهُ عَطْفًا عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَى الصِّلَة وَهُوَ فَأَحْيا فَمِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute